ولو قرأت كتاب : شمس العرب تشرق على الغرب للمستشرقة الألمانية زيغريد هونكه لعلمت أن حضارة المسلمين لم تقم على الأماني والأحلام ، بل قامت على سواعد أقوام أخذوا بأسباب المدنية ، وتنافسوا في خدمة دينهم ليعلو صرحه وتشمخ هامته فتكون العزة لله ولرسوله وللمؤمنين .
وقد مر معنا في ( احتراف خدمة الدين ) اجتهاد جماعة التبليغ في التفنن في طرق وأساليب الدعوة والوصول إلى قلوب الخلق وتلمس كل الوسائل الممكنة للدعوة إلى الله والتنوع ليس مزاجا مطاعا أو هوى متبعا ، ولكنه علم وذوق ، ثم دربة ومنافسة ، إذ لا بد من معرفة أوجه النفع والقصور في كل وسيلة من وسائل الدعوة ، ولا بد من وجود الإحصائيات التي تفيدنا في معرفة الإيجابيات والسلبيات ، ثم إن طرح البدائل مسبقا مع دراستها وتمحيصها ( كما هو معلوم في علم الإدارة ) له دور في تلافي الفشل الذي يعتري الوسائل القاصرة . ولذوق الداعية دور مهم في جماليات الوسائل حتى تكون ذات رونق يتميز به الداعية المسلم عن غيره . أما منافسة الداعية لغيره ودربته في تنويع وسائله فعاملان مهمان في شحذ الهمم والإمكانيات واستنباط الأفكار الجديدة والعبقرية . وليس يغيب عنا أن ننبه أن الجهد الجماعي في تنويع وسائل الدعوة أثرى وأغزر في الفائدة من الجهد الفردي ، كما أن قضية التنوع وغيرها من ملامح دعوية مرتهنة بقضية العمل الجماعي ولا ريب ، فقد برهنّا أن جهد الجماعة محاط برعاية الله مشمول بعنايته ومباركته ونختم هذا الفصل بتوصيات عملية تفيد قضية التنوع بالنسبة للداعية :ضرورة فهم مبدأ الابتكار في الوسائل الدعوية وأنها مشروطة بشروط شرعية حتى لا تدخل في دائرة الابتداع ، والمعنيّ : أن الدعاة يجب أن يفرقوا بين ما هو مسموح وغير مسموح في وسائل الدعوة حتى يستطيعوا الإبداع دون تهيب من حساسية الابتداع ( إبداع دون ابتداع ) . صقل الخبرات الدعوية بالأساليب الآتية :
أ. التعرف على الدعاة والتجمعات الدعوية والاحتكاك بجهودهم .
ب. مطالعة المؤلفات الدعوية التي تعنى بهذه القضية مثل كتاب : دليل التنمية البشرية لهشام طالب والمسار للأستاذ محمد أحمد الراشد ومقدمات للنهوض بالدعوة للأستاذ بكار .ج. صقل الذوق الدعوي بالثقافة العامة ومطالعة الدوريات العالمية التي يستفيد الداعية منها في أساليب العرض ومتابعة كل جديد في عالم الإعلام .
د. الإعداد لمؤتمرات ومعسكرات تدريب لتنمية قدرات الدعاة .
هـ. جمع تجارب الدعاة وخبراتهم ومهاراتهم في كتاب مطبوع لتعميم الاستفادة من تلك الخبرات . ضرورة مطالعة كل ما هو جديد عند دعاة الديانات والمذاهب الباطلة حتى يتمكن الدعاة من مقاومة إغراءاتهم
ومواجهتها بالأنفع والأرجى لقبول الناس . الاهتمام بجانب حسن العرض وبخاصة في الأنشطة الإعلامية . وقد أضحى هذا المجال علما له تقنيته ، وتواتر عندنا كيف أن المتنافسين في الحملات الانتخابية في الغرب يستعينون بمدير لحملاتهم تكون مهمته الترويج لشعبية تلك الشخصية بين الناخبين ، وما أجدرنا – في سبيل ديننا – أن تعلم كيف نروج له ونجعله غازيا لقلوب الناس .
من الأهمية بمكان أن نولي هذا الجانب مزيدا من الاهتمام عبر إيجاد المتخصصين المتفرغين ( مكاتب خبرة ) لابتكار وسائل دعوية تفيد الدعاة وتعينهم في مجهودهم الدعوي .
الطريقة الرابعة :
( التعلم والتعليم )
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لكُميل – رجل من أصحابه - : احفظ ما أقول لك : الناس ثلاثة ، فعالم رباني ، وعالم متعلم على سبيل نجاة ، وهمج رَعاع ، أتباع كل ناعق ، يميلون مع كل ريح ، لم يستضيئوا بنور العلم ، ولم يلجئوا إلي ركن وثيق ، العلم خير من المال ، يحرسك وأنت تحرس المال ، العلم يزكو على العمل ، والمال ينقصه النفقة ، ومحبة العالم دين يدان بها باكتساب الطاعة في حياته ، وجميل الأحدوثة بعد موته وصنيعه ، وصنيعة المال تزول بزوال صاحبه ، مات خزان الأموال وهم أحياء ، والعلماء باقون ما بقي الدهر ، أعيانهم مفقودة ، وأمثالهم في القلوب موجودة [1] أهـ.
نصوص الشرع المطهر وآثار السلف وأقاويل أهل العلم في فضل العلم والعلماء والتعلم والتعليم خارجة عن حوزة الحصر[2] ، والمقصود من هذا الباب بيان خطر العلم والتعلم في رفع راية الدين وسموق لوائه بين العالمين .
والمقصود بالعلم ههنا كل علم أورث خشية لله وعزة للدين ، وإن كان من علوم الدنيا ، وعلوم الدين مقصودة لذاتها ، أما علوم الدنيا فمقصودة بالتبع ، فمن ابتغى علما من علوم الدنيا كالطب والهندسة والفلك والكيمياء والإدارة والمحاسبة وتقنية الحاسب الآلي واحتسب المثوبة وصدق في تسخير علمه لخدمة الدين رُجي أن تكون هذه العلوم بمثابة علوم الدين ، بل طلبها حينئذ أشرف ممن طلب علوم الدين ولم يرفع بها رأسا .إن المقصود بكلامنا عن العلم هنا ما يعين على إعزاز الدين ورفع راية الحق ، ولا يكون ذلك إلا بثلاثة أمور :
الأول : تعظيم العلم وإجلاله واعتقاد خطورته كما قال حافظ حكمي رحمه الله :
وقدس العلم واعرف قدر حرمته لو يعلم المرء قدر العلم لم ينم
الثاني : الجد في طلبة وترك الدعة والكسل ، ومسابقة الغير فيه ، والتفوق على أهل ملة الكفر والعناد .
الثالث : الالتزام بمنهج جاد يسير عليه ويعول .
ثم إن المقصود بالتعلم والتعليم ههنا أيضا بلوغ الرتبة العليا والغاية الكبرى منهما ، وليس مجرد نوال حظ منه ولو كان قليلا .
فهمة الدعاة والغيورين على الدين يجب أن تسابق الريح ، وأن تكتسح الصعوبات ، وتتجاوز الأزمات ، فترقى بصاحبها إلى ذرى المجد والناس قعود [3].
أما آلية التعلم والتعليم فهي المقصودة من بحثنا ههنا ، وكيف يستطيع الدعاة أن يوظفوا هذا الركن الركين ( العلم ) في خدمة الدين ؟
إنه ما من شك أن كل أمر من أمور الدنيا له مقاصد ووسائل ومتممات ، والمقاصد هي التي تحدوا طالبها للرغبة فيها ، والوسائل سبيله الجادة لنيل مرغوبه ومطلوبه ، والمتممات مسلكه في حفظ ما ناله وحصل عليه .
ومقصود العلم بالنسبة لطلاب الآخرة نوال رضا الله تبارك وتعالى والفوز بجائزته تبارك وتعالى ، ومن مقاصد العلم تطهير النفس وتزكيتها وترقي المراتب العليا في العبودية ، ومسامتة الملائكة في مراتب الطاعة ، إذ بالعلم تزداد الخشية وتعظم الإنابة . أما وسيلة السالك طريق الآخرة في نيل مطلوبه من العلم وتتميم ذلك بحفظه من الزوال وعدم النفع ، فيكون بما سنسطره ههنا .
فالذي ينبغي أن يعلمه كل غيور على الدين ومساهم في إعزاز الدين أن العلم كيان استراتيجي وحيوي للدعوة الإسلامية ، وهو بمثابة الروح السارية في بنيان الصحوة ، وماء حياتها ورواؤها ، وبقد ما تبلغ الصحوة من العلم شأوا بقدر ما تنال من الإعزاز قدرا . ومعنى كون العلم كيانا استراتيجيا أنه صار ثابتا لا يقبل التغير أو المساومة ، وأنه يجب أن يوضع في أول سلم الأولويات ، كما أن اشتراطه وصفا لازما في حملة هذه الدعوة يجب أن يكون صارما لا يقبل التنازل أو التنازع . فالدعوة لا يمكن أن تبدأ خطواتها بالجهل ، ولا يمكن أن تتسارع في الخطو بأقدام الجهلاء ، ولن تستطيع أن تقيم للدين صرحا شامخا وهي من عدة العلم خاوية على عروشها . وقد أثبت التاريخ بالتجربة - بعد أن ثبت ذلك بنص الوحي المعصوم - أنه ما من أثر يخلد أو جهد يبقى أو تركة تدوم إلا العلم النافع الذي يستفيد به صاحبه ويفيده الناس . فيجب والحال كما ذكرنا أن تتواصى همم الدعاة على تبني ميثاق غليظ في إحياء هذه القيمة في قلوب أفراد المجتمع ، ومن باب أولى في نفوس من ينتمون إلى هذه الصحوة المباركة ، وتحريك ماء الكسل الآسن الذي أنتن بطول الخمول والمكث ، وحفز الطاقات الهادرة التي تنصرف في أودية الدنيا إلى احتضان العلم وتبنيه وإنزاله المنزلة اللائقة به .
لم يعد من المقبول أن نكون من أصحاب دين أول كلمة في الوحي الذي اختصصنا به الأمر بالقراءة فإذا بنا نقف في ذيل القراء والناهلين من العلم القراح ، كما لم يعد من المقبول أن نرى جلد الكفار والفجار في طلب العلم ورقي مراتبه وتسنم مدارجه وحملة الحق يحملقون وللشفاه يمصمصـون .
يقول الراشد : إن من مصائب أمتنا اليوم أنها لا تقرأ ، ومع ذلك فلا يتجه هذا الخطاب لها ، لأن طريق الاستدراك طويل ، ويبدأ بيقظة الخاصة من دعاة الإسلام ليقودوا البقية ، وإنما الخطاب متجه لهذه الخاصة الرائدة القائدة ، بل ولفتيان الدعوة الميامين ، الذين هم قادة المستقبل ، فنعم الفتيان فتيان الدعوة لو قرءوا
لقد عرفت شباب الإسلام وصاحبتهم واقتربت منهم ، فوجدتهم من أنقى الناس سريرة وأنصعهم طهرا وأصفاهم عقيدة وأجزلهم وعيا ، ورأيت منهم تشميرا إلى الخير في حرص دائب وفرارا إلى الله تعالى من خلال طريق عريض لاحب ، لكنها كثافة المطالعة تنقصهم ، ولو أنهم أحنوا ظهورهم على كتب التفسير والحديث والفقه والتاريخ طويلا ، واكتالوا لهم من الأدب والثقافة العالمية العامة جزيلا لكملت أوصافهم ولتفردوا في المناقب . وإني لأعجب من دعاة الإسلام الذين أراهم اليوم ، كيف يجرؤ أحدهم على إطالة العنق في المجالس ، والنشر في الصحف ، قبل أن يجمع شيئا من البيان جمعه الطبري في تأول آي القرآن ، وقبل أن يرفع له راية مع ابن حجر في فتحه ، ولم ينل بعد من رفق أم الشافعي وحنانها ولا كان له انبساط مع السرخسي في مبسوطه ، أو موافقة للشاطبي في موافقاته ؟
وكيف يقنع الداعية وهو لم يقرأ بعد المهم من كتب ابن تيمية ، وابن القيم ، والغزالي ، وابن حزم ؟ وكيف يسرع داعية إلى ذلك وهو لم يكثر من مطالعة كتب الأدب العربي القديم ، ولم يعكف مع الجاحظ وأبي حيان أو ابن قتيبة وأديبي أصبهان ؟ وأعجب أكثر من هذا لداعية أثير حماسته لهذه العلوم والآداب فيقول : ليس لي وقت ، كأنه غير مطالب بإتعاب نفسه تعبا مضاعفا ، ولا شرع له السهر !