ثلاثون طريقة لخدمة الدين 1
الشيخ رضا آل صمدي
إن طريق العاملين لخدمة هذا الدين طريق شاق يحتاج إلى جهد وخبرة، ولا بد له من ضوابط يسير عليها السالكين. وحتى لا يتكاسل أحد عن خدمة دينه، أو يتوانى أو يدعي أنه لا يستطيع أن يخدم دينه؛ وضع المؤلف هذه الطرق تيسيرا على من يبغي سلوك هذا الطريق, بأسلوب شيق جذاب يشحذ الهمم ويشد القلوب.
بسم الله الرحمن الرحيم
كلمةٌ قالها اليهود عندما استولوا على القدس في عام 67 ، حيث عبروا عن فرحهم وخرجوا في مظاهرات عارِمة وصاحوا قائلين : محمد مات مات .. محمد خلَّف بنات .
قرأت تلك الكلمة – في إحدى الكتب - وأنا بعد غَضُّ الإِهاب ، لا أفقه المَعْنِيَّ بالكَلِم ، ولكنها وقعت في قلبي كالإعصار المدمر الذي غير كثيرا من توجهات حياتي ومستقبلي الذي كنت أحلم به كأي فتى يافع ، وبكيت ساعتها وقلت في نفسي : لا . محمد صلى الله عليه وسلم لم يخلف بنات .
ومرت الأيام .. بل السنون ، وتعاظم إدراكي للورطة التي تعيش فيها أمتي ، وصرت أرقب بحرقة ما يدور حولي :
فأنَّـا التفتُّ فحقٌ سليبْ وأنَّا أَصَخْتُ فرَجْعُ النَّحيبْ
وأنَّا سَرَيتُ فدَرْبٌ مُريبْ وَصَفٌّ عجيبٌ ولُؤْمٌ رهيبْ
أَصِيْحُ بِقَومي إلى المَكْرُمَاتْ فَمَا مِنْ مُلَبٍّ وما مِنْ مُجيبْ
وصارت نفسي تشك وتذهب بها الظنون كل مَذهب ، هَلْ مَن حولنا رجال ؟ هل مَن يعيش بيننا ذكور ؟
عايشت نكباتٍ كثيرةً أَلَمَّت بأمتي وأنا ذو عقل وَاعٍ ، شاهدتُ اقتحام اليهود لبيروت ، ومرت بي أحداث صَبْرا وشاتيلا كَمَا الكابوس المريع ، دَرَسْتُ أزمة الخليج بِتَدَاعِيَاتِهَا ، وشاهدت مأساة البوسنة بنكباتها ، وتابعت كارثة الصومال وتَبِعَاتِهَا ، وعاصرتُ زلزال كوسوفا وتوابعَـه ، ورأيت الأشباح هي الأشباح ، والديار هي الديار ، ولكنني لاحظت أمرا مستنكرا لم ألاحظه قبل ، لقد صرتُ أَشَمُّ رائحة البَلادة ، وأجد نَتْنَها في أنفي أينما حلَلْتُ ، العامة يسمونها ( التَنْبَلَـة ) ، وقد سماها الرسول صلى الله عليه وسلم دِيَاثة ، وهو أن يرى الرجل المنكر في أهل بيته ولا يُغَيِّرُه .
وقد رأيت أعراضَ أمتي تُنْتَهَك ، ومحارمَها تُستباح ، وثرواتِها تُنْتَهَب ، وإذا بصياح اليهود يقفز إلى خاطري مُذَكِّرا .
أَتَسَمَّعُ أخبار المنصِّرين في كل حَدَبٍ وصَوْب تَخْرِق جدران قلبي ، عشرات المليارات تُنْفَق للتنصير ، أَتَرَقّبُ العَلْمَنَة تَجوْسُ خلال ديار الإسلام ، وأرى الإباحية والانحلال يتحولان إلى قانون وطريقة حياة في بلادي بلاد الإسلام .
تابعت الإحصائيات التي تصدرها هيئات البحوث في البلاد الإسلامية ، فَرَاعَنِي انتشارُ الجريمة ، وتَدَنِّي مستوى الأخلاق ، وهبوطُ معدل الأمن الاجتماعي ، بل الأنكى من ذلك كله اعوجاجُ المفاهيم الإسلامية ، واستيرادُ العاداتِ من الغرب والشرق ، وجَعْلُها من طرائق حياة المسلمين التي لا يُراد عنها حِوَلاً .
ثم رأيت الصحوة الإسلامية تَمْتَدُّ وتَتَجَذّر حتى أَضْحَتْ واقعا لا ينكره إلا معاند ، ولكنني
صرت أرى مع ذلك انتكاسا وقعودا وكسلا ، صرت أرى خمولاً يشبه خمول تنابلة السلطان – على نحو ما تقول العامة – ولكنني أبصره الآن بين صفوف الصحوة .
نَفَضْتُ الغُبار وأَزَحْتُ الدِّثار ، وقلت : لا والله ، لَتَعْلَمَنَّ يَهُودُ أن نبينا ما خلف بنات ، وسيعلم العالمَُ أَجْمَعُ أنّ وراءَ الأَكَمَةِ ما وراءَها .
يا أمّتي إن قسوتُ اليوم معذرةً فإن كَفِّـــيَ في النيران تلتهبُ
فَكَمْ يَحُزُّ بقلبي أن أرى أُمَمَـًا طارتْ إلى المجد والعُرْبانَ قد رَسَبُوا
ونحنُ كنا بهذا الكــون أَلْوِيَةً ونحن كنــا لِعِزِّ الشَمْسِ نَنْتَسِبُ
مَهْمَا دَجَى الليلُ فالتاريخُ أَنْبَأَني أنَّ النهـارَ بَأَحْشَاءِ الدُّجى يَثِبُ
إني لأَسْمَعُ وَقْعَ الخيـلِ في أُذُني وأُبْصِرُ الزمنَ الـموعـودَ يقتربُ
وفِتْيَةً في رياضِ الذِّكرِ مَرْتَعُهُـمْ للهِ ما جَمَعــوا للهِ ما وَهَبـوا
جاءوا على قَدَرٍ واللهُ يَحْرُسُهـمْ وشِرْعَةُ اللهِ نِعْمَ الغَـايُ والنَّسَبُ
وأَجْمَعْتُ أمري ولم يكن عَلَيّ غُمّةً ، وبحثتُ وتباحثتُ هذا الهَمَّ مع بعض الغيورين من حَمَلَة هذا الدين فقلنا : إن ثَمّة خلل ، فأمتي عددها يربو على الألف مليون ، وثرواتها الطبيعية ( كالبترول والذهب والمعادن الأخرى ) تُقَدّر بنصف ثروات العالم ، ومساحة الأراضي التي تسيطر عليها أمتي تقدر بثلُث بِخُمُس مساحة العالم أو أقل بقليل .
وليس العِلْم ينقُصُها ، بل منها عباقرةٌ شاركوا في بناء حضارة القرن العشرين ، وزاحموا أساطين التقنية الحديثة ، ولهم نظريات علمية بأسمائهم ، تشهد أن عقل المسلم لا يَقِلُّ ذكاء عن عقول بني الأَصْفَر .
ورُحْتُ أقلّب نظري في أزمات أمتي الكثيرة ، وطَفِقْت أستخلص العبرة من تاريخ أمتي القديم لعلي أَجِدُ ما يَدْرَأُ حَيْرَتي ويَقتل شكوكي .
وقُدِّر لي أن أُكلَّف ببعض المهام الدعوية ، وكانت مهمة شاقة وعسيرة ، ولم أجد من يساعدُني في تلك المهمة ، فبدأت أفكر مَلِيَّاً في تلك المهمة كيف يمكن أن تُؤدَّى ، وبقليل من التحليل خَلُصْتُ إلى أنه لا بد لهذا العمل من فريق يقوم به ، ولا بد أن يكون هذا الفريق متفهِّما لطبيعة العمل ، ولديه الاستعداد للقيام به .
وقد قمت باختيار من توسَّمْت فيهم تلك الصفتين ، وقمنا باستحداث أسلوب جديد لأداء ذلك العمل قائم على الدراسة المتأنية والإدارة الحازمة والتخطيط والمتابعة ، وتعاهدنا على ضرورة الصبر حتى يُؤْتِيَ المشروع أُكُلَه ، ويَبْدُوَ صلاحُه .
وبِجَلَدٍ وصبرٍ وأَنَاةٍ قام ذلك الفريق بأداء العمل ، حتى بَدَى أثرُه ، وشَهِد القاصي والداني بنجاح الإدارة الجديدة في عملها .
وكانت هذه التجربة هي التي ألْهمتني جانبا مهما من جوانب النفس الإنسانية ، وخللا ظاهرا – في نفس الوقت – في الآلية التي ارتضى بعض الدعاة أن تسير بها الصحوة الإسلامية المباركة .
ذلك الجانب الإنساني أن النفس البشرية قادرةٌ على أداء أي عمل إذا تم تدريبُها كما ينبغي ، وهذا ما أثبتَتْه الدراساتُ النفسيةُ الحديثة ، وأقول : بل هذا ما أَمَرَ به الشرع المطهَّر ، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( اسْتَعِنْ بالله ولا تَعْجِزْ ) . وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم : ( اللهم إني أعوذ بك من العَجْزِ والكَسَل ) .
وفي أساليب الإدارة الحديثة : يُلَقَّنُ العامِل عبارةَ : سَأُحاول ، بدلا من عبارة : لا أستطيع . ويُعَلَّم أن يستعمل عبارة : هذا تَحَدٍّ ، بدل أن يقول : هذا الأمر صَعْب .
والخلل هو أن تُهْمَلَ تلك النفس البشرية ، ويُهْمَلَ تدريبُها ، ويَرْضَى مَنْ حولَها بمستواها الـدون ، وإذا ما حاولت أمرا ترقّب الناس فشلها كأنه أجل محتوم .
إن هذه هي المصيبة ، والرُّزْءُ المُعْضِل ، إن رجالَ أمتي كُثُرٌ ، وأبطالَها موفورون ، وكُمَاتَها يملئون الأفق ، ولكن أحدا لم يُجرِّبْهم ، كما أن أحدا لم يُكَلِّفْهم ، كما أن أحدا لم يكتشفْهم .
فتوالت الأجيال على هذه الوتيرة من الإهمال والتناسي ، حتى تولّد في الشعور الجَمْعي تلك البَلادةُ التي ذكرتها ، وصار اليأسُ طَبْعاً ، والقنوطُ سَجِيّةً وخُلُقاً ، ولم يُجْدِ مع هذا الداء دواء .
واسْتيقنْت أن شباب الإسلام يجب أن يُولَدوا ولادة جديدة ، ويتلقّوا عقائدهم الاجتماعية من جديد حتى تَزْدان نفوسُهم بفطرة سَوِيّة ، قابلةٍ لتَلقّي أوامر الشرع ، بل قادرة على فَهْم ما يدور حولها من كيد ومكر .
وصار دَيْدَني وهِجِّيرَايَ اسْتنفار شبيبة الإسلام لتكذيب دعوى اليهود أن محمد صلى الله عليه وسلم خلف بنات . وكانت محاوراتي مع كل مَن حولي حول ضرورة تدريب كوادر الدعوة على الدعوة ، وضرورة احتراف خدمة الدين عبر إيجاد الجيل الدعوي الحاذق المحترف المدرب على كل المهارات الدعوية .
ووجدت في البداية صدوداً ، ثم تَعَاظم الاقتناع بالفكرة لولا عوائق خارجة عن إرادة الدعاة ، وقلت في نفسي : إن الأمر لا يكفي فيه مجردُ الاقتناع ، بل لا بد أن يعمل الدعاة جميعا على الرُّقِيِّ بمستواهم فعلا ، وأن تكون خدمة الدين هَمَّاً شاغلا ، وليست هوايةً تُمَارَس في أوقات الفراغ .
وعملْتُ على أن تكون كل كتاباتي ومحاضراتي عمليّةً وواقعيّة ، تشخّص الداء ، وتحلّل الواقع ، وتقترح الدواء المناسب ، وكيفية تناول ذلك الدواء ، وأحسَب أن هذا المسلك هو ما ينبغي أن يتبناه كل الدعاة في كتاباتهم ومحاضراتهم . فإن قضايا الدين لم تَعُدْ تحتمل التعميم والإطلاق ، ومشكلات الأمة ما عادت تصبر على التحليلات الجُزَافِيّة ، والتقديرات الهُلامية ، والمعالجات السطْحية ، بل تحتاج إلى تفصيل ، وتَرْنو إلى منهج دقيق للخروج من الأزمة .
وبين يديك أيها القارئ : محاولة بَدائيّة ، أُجاري فيها آمالي ، وأُناطِح فيها أحلامي ، أَدَعُ السرابَ للهائمِ في الفَيافي بلا مَقْصِد ، وأُيَمِّمُ وجهي نحو الماء القُراح سالكا الجادّة السويّة والفَجَّ الموصِل للمراد .
ثلاثون طريقة لخدمة الدين ، انتقيتُها لتكون أُنْموذَجا للطُّرُق الأخرى التي لم أذكرْها ، بأن تسْلُك على منوالها في الفَهم والتقعيد والتطبيق ، ولِتَقْطَعَ المعاذير على شيطانك وهواك ونفسك الأمّارة بالسوء ، ولِتعْلم أنك من جنود الحق ، لا يَسَعُكَ التَّوَلِّي يوم الزحف إلا مُتَحَرِّفا لقتال أو مُتَحَيِّزَا إلى فئـة .
مجالاتٍ طَرَّقْتُها ، وفتحت بعض مغاليقها ، أدعو الدعاة أن يُديموا الدرْسَ فيها ، ويتوسعوا في التنظير لها والتطبيق والتخصُّص . وأحسب أن كل طريقة تحتاج إلى تخصص مستقل ، وتحتاج إلى تصنيف مستقل ، يستفيد منه الدعاة في مشارق الأرض ومغاربها .
وإذا كانت العلوم العصرية تَجْنَحُ إلى التخصص الدقيق ، وتعتبره دليلا على الإتقان ، فأَجْدِرْ بدعاتنا أن يكونوا أَتْقَنَ الناس لعملهم ، وأكثر الناس استجابة لما تتطلبه دعوتهم .
وأنا أدعو كلَّ داعية غيور أن يَنبِذ الارتجالية في دعوته ، ولْيَقصِد هذه الطُّرُق ، ولْيتخصص فيها أو في بعضها بل في واحدة منها ، وليصنف فيها مؤلفا مستقلا يضع فيه خبرته ، ويعالج فيه كل المشكلات التي واجهها والتي يتوقعُها ، بل إنني أدعو كل مثقف مسلم أن يُدْلِيَ بدلْوه في شئون الدعوة في حدود تخصصه غير متجاوز لها ، معاونا إخوانه الدعاة بخبْراته واطّلاعاته ، لعله أن يستفيد من علمه مستفيد أو ينجو به ناج .
فها هي ذي مسالك خدمة الدين ، فَجَرِّدْ نفسك لها كلها ، { وما يُلَقّاها إلا الذين صبروا ، وما يُلقاها إلا ذو حظ عظيم } . أو انْتَقِ منها ما تُتْقُنُه ، أو تَخَصَّصْ فيما تَجدُ نفسك قادرةً عليه مستطيعةً إياه .
واعلم أن ما أوردته هنا من اقتراحات وأفكار مُرْتَهَنٌ تطبيقُها بالاستطاعة والمناسبة ، وكلُّ داعيةٍ خبيرٌ بواقعه وما يلائمُه . وكلُّ داعيةٍ بصيرٌ بما يجب المصيرُ إليه من مسالك خدمة الدين .
وما كان من أصول دعوية جامعة فهي مما لا يقبل النسخ والتخصيص ، بل يجب أن نُوجِد له الصيغةَ التي يحصل بها الإجماع . وما عاد وقتُ الدعاة يسمح بالخلافات اللفظية ، والمُمَاحَكَاتِ الكلامية ، والاعتراضاتِ الفلسفية الفارغة ، بل يجب البِدارُ إلى التّفاهُم ، والمسارعةُ إلى التعاون ، والسعيُ الحثيث إلى كلمةٍ سواءٍ تجمع بين المسلمين في كل مكان .
وقد أطلْتُ النَّفَسَ في بعض الطرق للاحْتياج ، ولِغُموضٍ في فَهْم الناس لتلك الطريقة ، وقد أشير إلى كثير من الطرق الأخرى لخدمة الدين عبْر شرح طريقة معينة ، فليس عدد الثلاثين مقصودا لذاته ، فقد تكون طرق خدمة الدين بالمئات ، عَلِمَها مَن علِمَها وجَهِلهَا من جَهِلها ، والسعيد من وفقه الله للعلم والعمل .