ثلاثون طريقة لخدمة الدين 2 الشيخ رضا آل صمدي
وفي بعض القضايا احتجت أن أُؤَصِّل لها من الناحية الشرعية ، فتوسَّعت في سَوْقِ الأدلة وَرَدِّ الاعتراضات لأن حَسْمَ النـزاع في تلك المسألة ينبني عليه عمل عظيم .
ولا أُحِلُّ لأحد أن ينسب إليَّ ما سكتُّ عنه ، أو أن يستخدم مفهوم المخالفة بأنواعه ، أو دلالة الالتزام أو التضمّن ، بل المُعتمد هو مَنْصوصُ الكلام ومنطوقُه ، أو ما كان من قبيل قياس الأولى أو ما هو في حكم المنصوص عليه .
وما كان من خطأ في التأصيل والتقدير والتحليل يراه القارئ لهذه الكتاب فَحَقِّي عليه النصيحـة ، وحقُّه عليَّ القَبول ، { والله يحكم بيننا وإليه المصير } .
وأنا مُلْتَمِسٌ من قارئ حازَ من هذا السِّفر نَفْعَاً ألا ينساني بدعوة صالحة خالصة في السَّحَر ، وليعلم أن ما في هذا الكتاب مِن غُنْم فحلال زُلال له ولغيره ، وما كان مِن غرم فهو عَلَى كاهلي وظهري ، وأبرأ إلى الله من كل خطأ مقصود ، وأستعيذه من كل مأثم ومغرم .
فدونك أيها القارئ هذا الكتاب ، اقرأه واعمل بما فيه ، فإن عجزت فَأَقْرِأْهُ غيرَك وادْعُه أن يعمل بما فيه ، فإن عجزتَ – وما إِخَالُكَ بِعَاجِزٍ – فبطْن الأرض حينئذ خيرٌ لك من ظاهرها .
ومن سويداء قلبي أسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعك بما فيه وأن يقوّيَك على العمل بما انتفعت به ، وأن يرزقك الصبر على ما قد يلحقك من عَنَتٍ وأذى ، وأن يتقبل منك سعيك في خدمة الدين ، وعند الله اللقاء ، وعند الله الجزاء القاعدة الأولى )
خدمة الدين من ضروريات الدين
نعم ! إنها خدمة يَشْرُفُ بها العبد وليست مَهْنَةً قَسْرية يُهان بها ، أو منصبا تشريفيا يخيّر بين القبول به أو الإعراض عنه ، وليست تبرعا ولا فرض كفاية ولا مجرد أداء واجب ، وإنما خدمة الدين ركن من أركانه وضروريٌّ من ضرورياته وأساس من أسسه . ولقد كان هذا المعنى مستقرا عند السلف الصالح استقرارَ المعتقَد في القلوب ، ولم يحتاجوا أن يستدلوا له أو أن يقرِّروه لأنفسهم بشتى وجوه الاستدلال ، بل كان يكفي أن يُسْلِمَ الواحد منهم أو يستقرَّ الإسلام في قلبه ليعتبرَ نفسه بعد ذلك مَنْذورَةً لهذا الدين ، ويجنِّدَها في خدمته ، ويَصرِفَ مجهوداتِها في نصرته والذَّوْدِ عن حَوْزَتِه .
إن هذا الدين إذا تأمّله المتأمِّل عَلم أنه صِيْغَ ليكون المتمسّكُ به داعيةً إليه ، ودَلاّلاً عليه . ومع مَزِيد تأمّل يرى المرء أن مَن أراد أن يكون مسلما دون تَبِعات ومسئوليات تجاه إسلامه فإنه رَامَ ضرْبا من التديّن شبيهاً بتدين الرهبان في الكهوف والصوامع والبِيَعِ ، وقد تقرر أنه لا رهبانية في الإسلام .
إن من أوائل الأوامر الربانية التي نزلت في القرآن : الأمر بالنِّذارة وتبليغ الوحي للخليقة ، يقول تعالى : ( يا أيها المدّثر . قُمْ فأنذِر ) . ثم توالى بعد ذلك ما يمكن أن نسمّيَه فقهَ الدعوة ، حيث تضمّن التنـزيل أوامرَ عُنيتْ بالشأْن الدعوي مثل قوله تعالى : ( فاصْدَعْ بما تُؤْمَرُ وأَعْرِضْ عن المشركين ) وقوله تعالى : ( قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين ) وقوله : ( ادْعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادِلْهم بالتي هي أحسـن ) ، وهي آيات ترسم صورة المسلم الداعية الذي يتبع نهج نبيه صلى الله عليه وسلم .
بل إن النبي صلى الله عليه وسلم كان من أوائل اهتماماته صِيَاغَةُ الشَّخصية الدعوية التي تحمل هَمَّ الدين وتبذُل له . وكان أول من دعاه النبي صلى الله عليه وسلم للإسلام هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، فلم يكن ذلك الصديق عَالَةً على الدعوة وعِبْئَاً عليها ، بل تحرك من أول يوم ينشر هذا الدين حتى دخل بجهوده الدعوية في أول الأمر ستة من سادات قريش الشبان ، إضافةً إلى سعايته في فِكاك العبيد الذين أسلموا من أَسْر الرِّق .
وإنّ تحرك صحابة النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته في أقطار الأرض لَدَليلٌ على أن الشخصية التي صاغها النبي صلى الله عليه وسلم ورباهم عليها هي الشخصية المتحركة للدين التي لا تعرف السكون ولا الكمون .
( وفي تفسير قوله تعالى : { يا أيها المدثر . قم فأنذر } يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمـه الله - : فواجب على الأمة أن يبلغوا ما أُنزل إليه ( أي النبي صلى الله عليه وسلم ) ، ويُنْذِروا كما أَنْذَرَ ، قال الله تعالى : { فلولا نَفَر من كل فِرْقَةٍ منهم طائفةٌ ليتفقوا في الدين ولينذِروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يَحْذرون } ، والجنُّ لما سمعوا القرآن :{ وَلّوْا إلى قومهم منذرين } . ويقول ابن القيم رحمه الله : وتبليغ سنته صلى الله عليه وسلم إلى الأمة أفضلُ من تبليغ السهام إلى نحور العدو ، لأن تبليغ السهام يفعله كثير من الناس ، وأما تبليغ السنن فلا يقوم به إلا ورثة الأنبياء وخلفاؤهم في أممهم ، جعلنا الله تعالى منهم بمنه وكرمه . ويقول الغزالي رحمه الله : اعلم أن كل قاعد في بيته أينما كان فليس خاليا في هذا الزمان عن مُنْكر ، من حيث التَّقاعد عن إرشاد الناس وتعليمهم وحمْلهم على المعروف ، فأكثر الناس جاهلون بالشرع في شروط الصلاة في البـلاد ، فكيف في القرى والبوادي ومنهم الأعرابُ والأكْراد والتُّرْكُمانِية ، وسائرُ أصناف الخلْق ، وواجبٌ أن يكون في كل مسجدٍ ومَحَلَّةٍ من البلد فقيهٌ يعلّم الناس دينَهم وكذا في كل قرية ، وواجب على كل فقيه – فرغ من فرض عينه لفرض الكفاية – أن يخرج إلى ما يجاور بلده من أهل السواد ومن العرب والأكراد وغيرهم ، ويعلِّمَهم دينهم وفرائض شرعهم . أهـ وعن جعفر بن سليمان قال : سمعت مالك بن دينار يقول : لو استطعت ألا أنامَ لَمْ أَنَمْ مَخافةَ أن يَنـزِلَ العذابُ وأنا نائم ، ولو وجدت أعوانا لفرَّقْتُهم ينادون في سائر الدنيا : يا أيها الناس : النارَ النارَ . وقال إبراهيم بن أَشْعَث : كنا إذا خرجنا مع الفُضيل ( بن عِياض ) في جنازة لا يزال يَعِظُ ويذكّر ويبكي حتى لَكَأَنّه يودّع أصحابه ذاهبٌ إلى الآخرة حتى يبلغَ المقابر ، فيجلس فكأنه بين الموتى ، جلس من الحزن والبكاء حتى يقوم وَلَكَأَنّه رجع من الآخرة يُخْبِرُ عنها . وعن شجاع بن الوليد قال : كنت أخرج مع سفيان الثوري ، فما يكاد لسانُه يفتر عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذاهبا وراجعا . والإمام الزهري لم يَكْتَفِ بتربية الأجيال وتخريج أئمة الحديث ، بل كان ينـزل إلى الأعراب يعلّمهم . وكان الفقيه الواعظ أحمد الغزالي – شقيق أبي حامد الغزالي رحمهما الله – كان يدخل القرى والضِّياع ويعظ لأهل البوادي تقربـا إلى الله . يقول الراشد حفظه الله : ولا ينبغي للداعية أن يَبْتَئِس إن لم يجد فَضْلَ وقت لقيام الليل يوميا ، والإكثار من ختْمات القرآن ، فإن ما هو فيه من الدعوة وتعليم الناس وتربية الشباب خيرٌ وأجْزَلُ أجـرا ، وقدوته في ذلك ورائده أئمة الدعاة من السلف الصالح الذين كانوا يسيحون لنشر الدعوة وتبليغها ، ويبادئون الناس بالكلام ، ويحتكون بهم احتكاكا هادفا ، ولا ينتظرون مجيء الناس لهم ليسألوهم ..ثم ذكر قصة الأعرابي الذي جاء النبي صلى الله عليه وسلم وسأله قائلا : يا محمد أتانا رسولُك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أَرسلَك ؟ قال الراشد : أتاهم رسولُ رسولِ الله داعيا ، وكذلك الناس تُؤْتَى ، ومن انتظر أن يأتيه الناس فليس بداعية ، ولو فصّلت كلمة الأعرابي لتبين لك كيف فارق ذلك الصحابي الداعية المدينةَ لما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم لقومِ هذا ، وكيف فَارَقَ أهلَه وبيتَه وأولادَه ، وكيف اجْتازَ المَفَاوِزَ وصحْراءَ مِن بعدِ صحْراء ، وكيف تعرّض للمخاطر والحر أو البرد ، ليبلّغ دعوة الإسلام . وهذا شأن الدعوة التي تريد أن تصل إلى أهدافها ، لابد من تَحرّك ومُبادَأَة وغُدُوٍّ ورَوَاحٍ وتَكَلُّمٍ وزَعْمٍ ، ليس القعـودُ والتمني من الطرق الموصلة ، فافْقَهْ سيرةَ سلفك وقلّدْهم تَصِلْ ، وإلا فَرَاوِحْ مكانَك فإنك لن تَبْرَحَه .. )[1] أهـ
إن التحرك للدين وبذل المجهود في الدعوة إلى الله والتمكين لشرع الله وإعلاء كلمته في الأرض يجب أن يكون عنصرا أصيلا في النسيج الإيماني لكل مسلم ، فلا يَفْتَأُ يحاسب نفسه في كل زمان : ماذا قدم لدين الله ؟ يَتَقَلَّبُ في مَضْجَعِه قَلِقَا ، لا يَهْنَأُ بِنَوْمَة ، ولا يطِيبُ له وَسَن ، ترتاده أخبار المسلمين فيَهْتَمُّ ويَغْتَمُّ ، يفكّر في سبل إيصال الحق إلى الخلق فيخافُ أن يقصّر ، يقلق من تنامي الكفر والفسق ، يَجْزَعُ من قلة الناصرين لدين الله ، إنه لا يفكر في جاره فقط أو صديقه كيف يدعـوه ، إنه يفكر في سكّان الكرة الأرضية كيف يُدخلهم في دين الله أفواجا . يالها من همة لو وجدت لها فؤادا وأحسب أن مثل هذه النفس لو تَلِفت هَمّا على حال الدين لما كان ذلك كثيرا جَلَلاً .
ومن أعظم مَن نرفعهم قدوة ومثالا في التحرك للتدين جماعة التبليغ العالمية ، التي ما فتئت تضرب لنا أروع الأمثلة في الحركة والتضحية وبذل الغالي والرخيص في خدمة الدين .
يقول الشيخ محمد بن إسماعيل في كتابه علو الهمة : ( بالرغم من التحفظات على فِكر ومنهج جماعة التبليغ إلا أننا نُقِرُّ بأنها أوْفرُ الجماعات حظا من علو الهمة في الحركة الواسعة الدَّءوب ، ولهم في ذلك إنجازات رائعة أثمرت إسلامَ كثير من المشركين وهداية كثير من الفاسقين ، وتبليغ دين الله في آفاق المعمورة .
حكى من شَهِدَ مجلسا لهم قال : جلسنا يوما في المسجد للتعارف ، فقام شيخٌ وَقور يعرِّف نفسه ، وقد جاوز السبعين من عمره : اسمي الحاج وحيد الدين ، أعمل في التجارة ، وعمري الآن تسع سنوات ، فاستغربْنا ، وقلنا في دَهْشَة : تسع سنوات ؟! قال : نعم ، لأنني أعتبر عمـري ضـائعا .. وكان هذا الرجل إذا وَعَظ قال : لا تضيّعوا أعماركم مثلي ، واشتغلوا بالدعوة إلى الله تعالى .
وقد حدث أن سألنا أميرَهم : لماذا تذهبون إلى المقاهي لدعوة الناس . قال : أرأيتم إن كان عندكم مريض ماذا تفعلون له ؟ قلنا : إن كان مرضُه ثقيلا نُحضر له الطبيب في المنـزل ، وأما إذا كان مرضه خفيفا فإنه يذهب بنفسه إلى الطبيب . قال : فكذلك الذين لم يعرفوا طريق المسجد ، مرضهم الإيماني ثقيل ، فنحن نذهب إليهم .
وسمعت بعض مشايخهم يروي موقفا تعرض له ، إذْ خرج للدعوة في حانة خمر في مدينة أوروبيـة ، واسْتَهْدَفَ رجلا مسلما كان يُجالس امرأة وهو يشرب الخمر ، فوعظه ونصحه وذكّـره بالله ، حتى لان قلبه ودمعت عيناه ، فأخذ بذراعه ليقوده إلى المسجد ، وأخذت المرأة بذراعه الآخر تنازعه فيه ، وكانت الغَلَبَةُ له بعد تَجَاذُب شديد من الطرفين ، وأتى به إلى المسجد وعلّمه كيف يتطهر ويصلي ثم تاب وحَسُنَت توبته .
وهم يجتهدون في ابتكار الحِيَل الخيرية لجذْب الناس إلى الدين ، كذلك التبليغي الذي أراد دعوة طبيب مشهور ، فدفع قيمة الفَحْص ، ولما جاءت نوبته دخل عليه ، فتهيأ الطبيب لفحصه ، فإذا به يخبره أنه ليس بمريض ، وإنما رَغِب أن يذكّره الله ، وينصحه في الدين ، وراح يفعل ذلك ، حتى رقّ قلب الطبيب ، وتأثر بموعظته ، وأراد أن يرد عليه قيمة الكشف ، فأبى قائلا : هذه قيمة ما استغرقته من وقتك .
ومن ذلك أنه لما صَعَّد الإنسان إلى القمر ، قال أحدهم : ولو صَعَّد الناس إلى القمر ، وتحول بعض منهم عن الأرض لَنُرْسِلَنَّ وراءهم قافلة تخرج في سبيل الله ، وتَصَّعَّد إلى القمر لتدعوَهم .
يقول الأستاذ الراشد حفظه الله : حركة التبليغ أجادت غرس الثقة في دعاتها ، وبخطبة واحدة يتعلمونها يجوبون الآفاق ويواجهون المجتمع ، وآخرون يأمرون وإخوانهم بضمّ الرأس ، ويقولون لفتى الصحوة : أنت في خندق ، احْترِسْ وأَتْقِن الاخْتباء !! .
وهذا أخ مؤذّن يأسَف ويحزن حزنا شديدا ، إذْ بَلَغَه أن بُرْج ( بِجْ بِنْ ) الشهير في لندن قد مـال ، وأنه مُهدّد بالانهيار فلما سُئل عن سر أسفه وحزنه قال : ما زِلْتُ أُؤَمِّل أن يُعِزَّ الله المسلمين ويفتحوا بريطانيا ، وأصعدَ على هذا البرج كي أُؤَذِّنَ فوقه .
وأعرف ( والكلام مازال للشيخ محمد بن إسماعيل ) : أخا أمريكيا من أصل أسباني ممن أسلم لله ، وحسن إسلامه ، يعيش مع زوجته الأمريكية التي أسلمت أيضا في مدينة ( نيويورك ) وقد انتدب نفسه للدعوة إلى الله ، فيخرج هو وزوجته ويقفان أمام الكنيسة ليلتقط روادَها من الرجال ، ويدعوهم إلى الإسلام ، وكذلك تفعل زوجته مع النساء وذلك كل يوم أحد .وأعرف – والكلام ما زال للشيخ محمد إسماعيل حفظه الله - أخا يعيش في ألمانيا أحسبه – والله حسيبه – مجتهدا في الدعوة إلى الله غاية الاجتهاد ، حتى لا يكادُ يذوق طَعْمَا للراحة ، وقد اسْتَحْوَذَت الدعوة على كل كيانه ، حتى أَرْهَقَ نفسه ، وشُغِل عن بيته وأهله وولده ، فرأى إخوانُه
[1] نقلا عن علو الهمة لمحمد بن إسماعيل المقدم حفظه الله ص (264) فما بعدها .