ثلاثون طريقة لخدمة الدين 3
الشيخ رضا آل صمدي
أن يُمنح عطلة إجبارية ، وذهبوا به صحبةَ أسرته إلى مُنْتَجَع ناءٍ لا يعرفه فيه أحد ، ولا يعرف فيه أحدا كي يَهْنَأَ ببعض الراحـة ، وواعدوه أن يعودوا لإرجاعه بعد أيام ، ولما رجعوا إليه وجدوه قد أسّسَ جمعية إسلامية في هذا المكان قوامها بعض العمال المغاربة وغيرهم ممن انقطعت صلته بالدين ، ففتش عنهم في مَظَانّ وجودهم ودعاهم إلى طاعة الله وألّف بينهم وأقاموا مسجدا كان فيما بعد منطلقا للدعوة إلى لله في تلك البلدة ..ثم ينقل عن الأستاذ الراشد قوله : وقد كنت في الأيام الخوالي ألاطف إخواني فأفتّش عن أحذيتهم ، ليس على نظافتها وصَبْغها ورَوْنَقِها كالتفتيش العسكري ، بل على استهلاكها وتقطّعها والغبار الذي عليها ، وأقلّبها فأرى النَّعْل ، فمن كان أسفل حذائه مُتَهَرِّئا تالفا فهو الناجح ، وأقول له : شاهدُك معك ، حذاؤك يشهد لك أنك تعمل وتغدو في مصالح الدعوة وتروح ، وتطبق قاعدة : { وجاء من أقصى المدينة رجل يَسْعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين } ، وبكثرة حركتك تلف حذاؤك فأنت المجتاز المرضي عندي . قال صباح ( من تلاميذ الأستاذ ) : قد – والله – بعد عشرين سنة يأخذني تأنيب الضمير كلما رأيت حذائي لا غبار عليه وأتذكر ذاك التفتيش . )[1] أهـ
وإذا تأملنا بعض النصوص الشرعية التي عالجت الوضع الاجتماعي المسلم نجد أنها تركز على الإصلاح كجانب أساس في قيام الدين ، وكما أنه لا إِصلاح بدون صلاح فلا صلاح بدون إِصــلاح ، وفي هذا المعنى يقول الله تعالى : { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر } ويقول صلى الله عليه وسلم : ( الدين النصيحة ) رواه مسلم .
فتأمّل – يرعاك الله – كيف أن خيريّة الأمة مبنية على القيام بواجب الإصلاح وأن الدين مشتمل على أُسُسٍ من أهمها النصيحة ، وعلى هذا بايع النبيَّ صلى الله عليه وسلم بعضُ الصحابة : أن ينصح لكل مسلم [2].
وقد قرَّرَ علماء الأصول أن الحكمة التي لأجلها شرع الله الأحكام منها ما هو ضروري ومنها ما هو حَاجِيٌّ ومنها ما هو تَحْسِيْنِي[3] ، فأما الضروري فهو أصول المصالح التي لا تقوم الحياة إلا بها ، ولو تُصُوِّر زوالها لأدى إلى فَوات حياة الناس ويصبح عيشهم تَهَارُجا وفوضى .
وأصول الضروريات ترجع إلى حفظ خمسة أمور هي : الدين والنفس والعقل والنسب والمــال ، وبدون حفظ هذه الأمور يعيش الناس عِيشة البهائم الرتّع ، وتفوت حياتهم الكريمة التي أرادها الله لهم .
وجعل العلماء حفظ الدين من أولى الضروريات التي اهتم بها الشرع ، فإن مَدار الأحكام الشرعية على هذا الضروري مثل وجوب لزوم الاعتقاد الصحيح الذي هو أُسُّ الدِّيانة ومرورا بالأركان الخمسة التي عليها يقوم بناء الدين وأركان الإيمان التي بها يصح العمل والإحسان الذي به يقبل العمل ، وكذلك الجهاد الذي هو ذِرْوَةُ سَنَام الدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو رُوح الشرع والنصيحة التي هي الدين كما قال صلى الله عليه وسلم .
كل تلك التكاليف الشرعية مقصودها حفظ الدين ، وفي سياق ذلك يُفهم أن أعمال المكلف لابد أن تدور حول هذا الضروري ( حفظ الدين ) ، والذي يتخيل حياةً حافلة بالأعمال الصالحة دون أن يستحضر هذه النية فيخشى عليه أن يكون داخلا في قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين قيل لهم كُفُّوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية ، وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا } .
بل إنني أزعم أن من سمات العلمانية الواضحة أنها تريد من المسلم أن يعيش إسلامه كطقوس منـزوعةِ المعنى ، بعيدةٍ عن هذا المَقْصِد الذي نحن بصدده ، فيصير الإسلام مجرد فكرة جميلة المبادئ يعيشها المسلم دون التزام بنصرة هذه الفكرة التي يحياها كعاشق حالم ، وإذا بنا نبصر هذه الشخصيات المسلمة الممسوخة التي ليس عندها أدنى استعداد لتقديم أي شيء في سبيل نُصرة قضايا دينها وأمتها .
وليس خافيا أن مجهودات وسائل الإعلام – المعادية للدين – تركّز على جانب خبيث في الفكر الإعلامي يعرف بمصطلح : ( حشد اهتمام الرأي العام ) ، ولو تتبع أيُّ أحد اتجاهات الإعلام ( لا أقول في دول الكفر بل في الدول التي تستظل بمظلة الإسلام ) سيجدها في أقل أحوالها منصبّة في تخدير الشعور الديني ، وإذا زاد الخُبث قليلا فإنهم يعملون على إثارة الغرائز وإغراق النفوس بالشهوات الحيوانية ، وإذا تعاظم الخبث فإنهم يعملون حينئذ على تشويه معالم الدين وقلْب الحقائق ، وهذا لَعَمْري أعظم الأَثَافي .
وكما يحكي بعض الدعاة : أن البرامج الإعلامية غدت ذات تناقضات من قبيل المضحك المبكي ، فلا غَضَاضَةَ عند القوم أن يكون بعد الحديث الديني فيلم أمريكي داعر ، ولا ملامة على مقدمة البرامج المتبرجة أن تُجري حديثا تلفزيونيا مع شيخ مُعَمّم ، ثم تستطيع أن تسمع مذهولا عن مسلسلات تسمى دينية يظهر فيها الأئمة عُشّاقا وأصحاب مزاج موسيقي وتذوق عال لجمال النساء والفن !
إن هذه التناقضات المقصودة يراد منها أن يتجرع المسلم دواء يزيل عنه الجانب التطبيقي من تدينه ، فيصبح مسلما مصليا صائما حاجا لكنه لا يجد تعارضا بين ذلك وبين موالاة الكافرين ومصاحبة الفاسقين وأكل الربا وغشيان الفجور والتحاكم لغير شرع الله عز وجل [4]، وأصبح من العادي أن أسمع من كثير من الشباب يلبس ملابس لاتَنُمُّ عن دين وحياء وبجانبه اصْطَفَّ فريق النساء المترجلات أو الرجال المتخنثين يمسك بسيجارة عفراء أو يمضغ علكا بطريقة أنثوية ثم يقول : الحمد لله أنا لا أعمل شيئا يغضب الله !
إن هذا الجيل قد تعرض لحملة من التشويه الإعلامي تضارع في شراستها حملة محاكم التفتيش في العصور الوسطى لإِثْنَاءِ الناس عن الإسلام إلى النصرانية ، ولكنها تغلّفت في القرن العشرين بميكيافيلية خبيثة ، إذ صار الفجور عَصْرَنَة وتطورا ، والالتزام تحجّرا ورجعيّة ، وصار حجاب المرأة المسلمة تخلفا والسفور تقدما . والأدهى والأمر أن الإعلام قد علم قوة الدين في قلوب الناس وسرعة استجابتهم لنداء الحق إذا سمعوه ، فأطفئوا ذاك النور الباقي ، ولقّحوا عقول الناس بمصلٍ يقي من التديـن ، فما أن يتعرض الواحد منهم إلى شعاع بسيط من نور الحق إلا ويبادره هواه بالردود المعلّبة : الدين يُسْر ، وإياك والغلو في الدين ، والتطرف عاقبته كذا وكذا .. هذا عدا من جعل بينه وبين التدين ستارا واقيا بزعم أن التدين يقود إلى السجون والمعتقلات .
والأعجب من هذا – إذا لم تتعجب مما مضى – أن كثيرا من الأكاديميات الإسلامية العريقة تمارس ذات الدور الذي تمارسه وسائل الإعلام ، بل إنها قد تفوق بما تبثه في قلوب الشبيبة من احتكار المتخصصين في الشرع للدعوة وضرورة أن يحصل على إذن الدعوة من الجهات التي تُخَوِّلُ للناس أن يدعوا إلى الله ، ناهيك عن الدور التربوي القاصر الذي تقوم به تلك الأكاديميات مع الطلاب الذي يتوقع منهم أن يكونوا دعاة الغد .
وفي بعض المخيمات الصيفية الشبابية التي تقيمها بعض تلك الأكاديميات تحدث المهازل والطوام التي يشيب لها الولدان ، فإذا ما سألت عن القوم وجدت منهم خريجي الشريعة والدعوة ونحوهما .
ولقد سمعت بنفسي في الكلية الشرعية التي درست فيها من طلبتها من يسب دين الله ، أما المتخنثين وتاركي الصلاة والمدخنين فحدث عن ذا ولا حرج . أوليس من الغريب أن نرى تلك الألوف من خريجي الكليات الشرعية هي أول من يحارب الدين ويعاديه ، أوليس الغريب أن نرى العمائم هي التي تحارب صحوة الشباب المسلم .
لقد ضبط في بعض البلاد الإسلامية تنظيما لعبدة الشيطان ، وقد ظهر من التحقيقات أن هذا التنظيم يمارس بالفعل عبادة الشيطان وتقديم القرابين له وفعل المنكرات الشنيعة التي يأمرهم بها شيطانـهم . ولم تكن مفاجأة كبيرة أن يفتي بعض المعممين بأن هؤلاء الشباب الطائش لا يقصد –حقيقةً – عبادةَ غيرِ الله ، وأن مثل هؤلاء لا يُقام عليهم حَدُّ الرِّدَّة ، فقد كان معظم التنظيم من الشباب الصغير الذي عانى من الثراء الفاحش والتفكك الأسري ، وتعرض لغسيل مخ من قبل بعض الأفراد في الخارج والداخل .
ولكن الغريب المستهجن ، والذي ليس له تفسير : أن يفتي نفس ذلك المعمم في حق بعض الشباب المسلم المتهور في تغيير المنكر بأنهم من المحاربين الذين يجب أن يُقْتَلوا أو يُصَلَّبوا أو تقطَّع أيديهم وأرجلهم من خِلاف .
وهكذا تُخْتَزَلُ الحقائق ، ويطيش الميزان ، ويتبين لكل ذي لُبٍّ أن طريق خدمة الدين مآله تقطيع الرقاب ، وأما عبادة الشياطين فهو أمر يمكن للمجتمع أن يَغُضَّ عنه الطَّرْف .
أَوَلَيْس كل ذلك مما يزهد الناس في خدمة دين ربهم وينأى بهم عن القيام بما يُمليه عليه واجبُ وجودهم في هذه الحياة أصــلا . وليس يخفى أن هناك أدوار أخرى خبيثة غرضها التأثير في أخلاق المسلمين ، بزرع الجُبْن والهَلَع والرضا بالضَّيْم ، ونَزْعِ المكارم والمثُل كالشجاعة والنَّجْدة والحَمِيَّة للدين ونحو ذلك ، مما استتبع وجود شخصيات قابلة للمسخ والتشويه .
تبقى الإشكالية التي تحتاج إلى مجهودات ضخمة لعلاجها : وهو كيفية بث هـذه العقيــدة ( أعني عقيدة خدمة الدين ) في قلوب كل المسلمين فضلا عن الدعاة والغيورين على دين الله تعالى .
إن مثل هذا الأمر لو حدث فإن الدعوة ستقطع شوطا واسعا في إعلاء كلمة الله تبارك وتعالى ، إذ لا يزال من أهم العوائق التي تحول بين الدين وبين انتشاره في قلوب الناس أنهم يظنون الدعوة مهمةَ ذوي العمائم والِّلحى ، وأن الواحد ما دام محافظا على شعائر الدين فإنه غيرُ مسئول بعد ذلك عن أية قضية تُلِمُّ بالمسلمين ، وقد قرأنا وجهة النظر هذه بقلم كبار الكتاب والصحفيين يستعلنون بين الناس بأن قضية مثل قضية البوسنة لا يجب أن تشغلنا عن مشاكلنا الداخلية ، بينما نجد دولا مثل النرويج تعتني بمثل هذه القضية لتأثيرها عليها من ناحية نزوح اللاجئين ، فكيف لا تكون هذه القضية ذات أثر علينا نحن المسلمين وهم شركاؤنا في الدين .
لقد رأينا البرتغال تدخل أنفها في قضية تيمور الشرقية ( وهو إقليم ذو أكثرية نصرانية في إندونيسيا يطالب بالاستقلال ) لا لشيء إلا أن هذا الإقليم إِرْث استعماري يربطه بالدولة الأم آصرة الديانة الكاثوليكية .
إن الاهتمام بقضية الدين وبقضايا المسلمين لا تزال تشكل في مجتمعاتنا الإسلامية حِسَّا ثانويا يتوارى وراء الاهتمامات التافهة لشرائح المجتمع ، وكم رأينا أمتنا تَحْشِد شبابها عن بَكْرَةِ أبيهم لتنظيم دورة ألعاب أو استقبال مُطرب عالمي أو تنظيم مهرجان سينمائي أو غنائي ، ولكن عندما يُمس جَنَاب الدين فإن الجمل يَسْتَنْوِق ، وترى الهِرَّ يحْكي انتفاشا صَوْلةَ الأسد :
فما المعنى بأن نَحْيَا فلا نُحْيِي بنا الدينا
وما المعنى بأن نجتـَـرَّ مجـدا ماضيا حينا
وحينا نطلق الآهـــات ترْويحا وتسْكينا
وقد نسي قِطاع كبير من أولئك الذي يهتمون بشعائر الإسلام الظاهرة ( كالصلاة والصيام والحج ) أن من أعظم شعائر الدين الاهتمام بأمر المسلمين ، حتى توعد الله تبارك وتعالى المتقاعسين عن خدمة الدين بالخزي في الحياة الدنيا والآخرة ، قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض ، أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة ، فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل . إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضرونه شيئا ، والله على كل شيء قدير ) .
.
الله ) .