كتاب المدهش لابن الجوزي67
زور صب الصاب في من صبا، فالصبا تسفي على منصبه والدبور، وسيأتيك يا فتى ما أتى من عتا حتى في الرواح أو في البكور، فانتبه فإن الموت يدور على ساكني الدور، ويلتقط أرباب القصور بلا فتور ولا قصور، وكأنك بالأمر قد فصل "وحُصِّل ما في الصدور" فمن جار قنطرة الهوى آب بتجارة لن تبور "ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور".
يا قليل البضاعة بل يا مفلس ترجو النجاة بالمعاصي? لقد وسوس، أتلبس ثوب الشيب? ثم تلبس، جاء الصباح فنسخ حكم الحندس، وأطرق النيلوفر لما حدق النرجس، يا من يقوم من المجلس كما يجلس، كن كيف شئت فإنما تجني ما تغرس، ألك عذر قل لي? الباطل يخرس:
يا رب إليك منا نتظلم أحوالنا تنطق عنا وما نتكلم وقلوبنا من ذنوبنا تبكي وتتألم، وأنت العالم الذي تعلم، أتتركنا للجهل? وأبونا منك تعلم يا من أخّر ما شاء كما شاء وقدم، لا تجعلنا ممن إذا رحل تندّم، يا من نبه الفضيل وابن أدهم، قد تركتنا الذنوب لا نشترى بدرهم:
يا صاحب الخطايا لست معنا، يا مقبلاً على الهوى ما أنت عندنا، ضاعت حيلي في تحصيل قلبك، اشتدت حيرتي في تلافي أمرك، واعجباً، أخوِّفُك عواقب الأمور وما تتوب، وأشرح لك أحوال الصالحين وما تؤب، ومتى سقطت شهوة العليل دنا الموت، قد أوقدتُ نار المواعظ إلى جانب كسلِك ونفسُ عزيمتك شديد البرودة، وقد اتفق الأطباء على أن النفس البارد في المرض الحاد دليل الهلاك: والله ما فاز سوى الزاهدين، ولا نال الربح غير العابدين، ونهاية الكمال للمحبين كان همُّ القوم طلب النجاة، وكانت لذتهم في المناجاة، فارتفع لهم القدر وعلا الجاه، لو رأيتهم في الأسحار وقد حار الخائف بين اعتذار واستغفار ولطائف، يتخلل ذلك دمع غزير ذارف، يرمز إلى شوق شديد متكاثف، كانت عابدة تقوم من أول الليل وتقول تشاغل الناس بلذاتهم وقد جئت، إليك يا محبوب: تالله لقد حصل للقوم فوز الدارين، ورضيتم أنتم بالبين من البين، تنبهوا يا نيام كم ضيعتم من عام? الدنيا كلها منام، وأحلى ما فيها أحلام، غير أن عقل الشيخ بالهوى غلام، علام قتل النفوس علام? هل هو إلا ثوب وطعام? ثم يتساوى خز وخام، ولذات طيبات ووخام، إنما يعرف الفطناء لا الطغام، آه للغافل إلى كم يلام? أما توقظك الليالي والأيام? أين سكان القصور والخيام? دارت على الكل كأس الحمام "ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام" إلى متى مزاحمة الأنعام? ردوا هذه الأنفس بزمام ازجروا هذه القلوب عن الآثام اقرؤا صحائف العبر بألسنة الأفهام، موت الجيران شكل وأخذ الأقران إعجام، يا من أجَلَه خلفه وأمله قدام، رب يوم له مفتاح، ما له ختام، يا مقتحماً على الحرام أي اقتحام، ستعلم من يبكي في العقبى? عقبى الإجرام، ويشارك الندامى على الندامى والمدام، يا طويل المرض متى يبرى السقام، يا من إن قعد فللدنيا وكذا إن قام أول الدنيا هم وآخرها موت زؤام، حل لها الفراق وحرم عليها الدوام، سحابها لا يمطر وسماؤها قنام، كلها عيب في عيب وذام في ذام، أتعيبها عند محبها? متى يسمع العذل مستهام? خلِّها واخرج عنها بسلام إلى دار السلام فالجنة رخيصة ثم ما تغلو على مستهام، خذها إليك نصيحة من طب يداوي الأسقام، يضع الهناء موضع النقب ويعرف أصل الآلام ويركب المرهم عن خبر ويدبر كيف شاء الكلام، ما بعدها نصيحة تكفي والسلام.
آخر كتاب المدهش.
قد بلغ التمام والنهاية.
وفرغ منه منشيه عبد الرحمن بن علي بن الجوزي يوم الثلاثاء رابع عشر جمادى الآخرة سنة إحدى وتسعين وخمسمائة حامداً لله سبحانه ومصلياً على محمد وآله وصحبه ومسلماً، آمين.
مكتبة مشكاة الإسلامية
أعاد كتابته عضو منتدى كريم روايال - هدية للقراء الأعزاء
احمد بوتزاط