كتاب المدهش لابن الجوزي - 19-
الفصل الرابع
الأكوان أشرف من درة نبينا صلى الله عليه وسلم، طرة غرته أحسن من جمال يوسف، لعاب فيه أشفى من البرء، شمس شرعه لا يدركها كسوف ناسخ، قمر دينه لا يدخل في محاق.
كل الأنبياء في القيامة تقول نفسي نفسي، وهو يقول أمتي أمتي، فإذا سجد، قيل ارفع رأسك، وقل تُسمَع، كم بين ذل محب، وإدلال محبوب، الحيوانات تذل في طلب القوت، والفيلة تتملق حتى تأكل، يا من هو في جملة جنود هذا الشجاع، أيحسن بك? كل يوم هزيمة.
لولا جد أصحابه في جهادهم وشجاعتهم في صفوف قتالهم، لافتضح المتأخرون، فالحمد لله على اليزل، كانوا بالليل رهباناً وبالنهار فرساناً، قطع الرسول طمع من طمع في لحاقهم بحسام "ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه" وكيف تنال مرتبة السابق بشيء وقر في صدره? أو منقبة المهيب والعدو يفرق من ظله? أو مقام الوقور فالملائكة تستحي منه? أو فضيلة مزاحم النفس في منزلة كهارون من موسى: يأس والله الكهول من مقارنة سيدَيْ كهول أهل الجنة، كما لم تطمع الشباب في مزاحمة سيدَيْ شباب أهل الجنة، متى التهبت في صحابة الأنبياء? عزيمة كحمرة جمرة حمزة، أو علا على العلاء علي، كعلاء علي، لقد فاز بلقب الصدق طلحة الجود، كما سعد بالفضل وحوارى الزبير، وسما بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم خلفه ابن عوف، كما قرت بلفظ فداك أبي وأمي عين سعد، ونجا بالشهادة له بالجنة سعيد، كما عز ابن الجراح بلقب الأمين، ولم يذكر باسمه بالقرآن غير زيد، وأين في الموالي مثل سالم وسلمان? ومن في الزهاد كمصعب وابن مظعون، وإنه لمسعود عبد الله ابن مسعود، وطوبى ثم طوبى لخباب وصهيب، ويا شرف المؤمنين بصوت بلال، ويكفي فخراً: "كوني فخراً لعمار" وأي بيت يشبه بيت أبي أيوب? ومن زين القراء إلا أبي بن كعب? ومن في النقباء كابن زرارة وابن الربيع? وأنى في الفقهاء مثل معاذ? ومن له زهد كزهد أبي ذر? والفخر لبني هاشم بالعباس، وكفى للبصراء قائداً ابن أم مكتوم، وإنه لقدوة المؤثرين أبو الدحداح، ومن في قوام الليل مثل تميم? ومن صبر على القتل صبر خبيب? كلهم أخيار، وجميعهم أبرار، ولا مثل صاحب الغار، وأين نظير فُتّاح الأمصار? ومن يشبه قتيل الدار? ولقد افتقروا إلى المجاهد بذي الفقار، بحب هؤلاء ترجى الجنة وتتقى النار.
إن الله تعالى لما حلى محمداً حلية التنزه، خلع عليه خلعةً هي الإسلام، وأعطاه منشوراً هو القرآن، ولواءً هو النصر، فأبو بكر صدَّق النبوة، وعمر أظهر الرسالة وعثمان جمع المنشور، وعلي حمل السيف لما جلا الرسول عروس الإسلام، لم يكن بد من نثار، نثر عمر نصف ماله، فرمى أبو بكر بالكل، فقام عثمان يجهز جيش العسرة، بوليمة العرس، فعلم على حال الغيرة، فبت طلاق الضرة، ثم رأى بعض جهاز الدنيا المطلقة عنده. وهو الخاتم. فسلم وما سلم:
الفصل الثالث
في قوله تعالى "وأذِّن في الناس بالحج"
لما تكامل بناء البيت، أرسل الله تعالى إلى خليله، أدِّ رسالة "وأذِّن" فَعَلا على أبي قبيس، ونادى في جميع الوجوه: إن ربكم قد بنى لكم بيتاً فحجوه، فأجاب من جرى القدر بحجه: لبيك اللهم لبيك. فكان ذلك اليوم. أخاً ليوم "ألست بربكم":
قطع القوم بيد السفر "بشقِّ الأنفس" فوافقهم الركاب "وعلى كلِّ ضامرٍ":
واعجبا من حنين النوق، كأنها قد علمت وجد الركاب، تارة تجد في السير، وتارة تتوقف، وتارة تذل وتطأطئ العناق، وتارة تمرح، كأنها قد استعارت أحوال العارفين:
أمر المحرمون بالتعري. ليدخلوا بزي الفقراء، فيبين أثر "وما أموالكُم":
تالله لقد جمعوا الخير، ليلة جمع، ونالوا المنى إذ دخلوا منى:
حج جعفر الصادق فأراد أن يلبي فتغير وجهه، فقيل: مالك يا ابن رسول الله? فقال: أريد أن ألبي فأخاف أن أسمع غير الجواب.
وقف مطرف وبكر، فقال مطرف: اللهم لا تردهم من أجلي، وقال بكر: ما أشرفه من مقام لولا أني فيهم.
وقام الفضيل بعرفة، فشغله البكاء عن الدعاء، فلما كادت الشمس تغرب، قال: واسؤتاه منك وإن عفوت.
وقف بعض الخائفين على قدم الإطراق والحياء فقيل له: لم لا تدعو? فقال: ثم وحشة. قيل: فهذا يوم العفو عن الذنوب? فبسط يده فوقع ميتاً.
....:
حج الشبلي. فلما رأى مكة قال:
ثم غشي عليه فلما أفاق قال:
حج قوم من العباد فيهم عابدة فجعلت تقول: أين بيت ربي? أين بيت ربي? فيقولون ألا ترينه:
فلما لاح البيت، قالوا هذا بيت ربك، فخرجت تشتد وتقول: بيت ربي. بيت ربي. حتى وضعت جبهتها على البيت، فما رفعت إلا ميتة:
أودعت إقرارك يوم السبت الحجر الأسود، وأمرتُك بالحج لتستحي بالتذكير من نقض العهد، الحجر صندوق أسرار المواثيق، مستمل لما أملى المعاهد، مشتمل على حفظ العهد، فاستلم المستملي المشتمل، ليعلم أن إقرارك لا عن إكراه، لا تنس عهدي فإني لا أنساك:
كم شخص أشخصه الوجد في الحج، فكاد نشابة المواثيق قبل تقبيله تقتله، فلما قضى الناسك المناسك، ورجع باقي سهم الشوق إليه في قلب منى المنى:
أخواني: ذكر تلك الأماكن يعمل في القلب قبل السمع، كأنها قد خلقت من طين الطبع، لسلع سلع لسع، ليس لعسل لعس: للمهيار:
وآخجل المتخلف، وآسف المسوف، أين حسرات البعد? أين لذعات الوجد?.
للخفاجي:
يا عجباً لمن يقطع المفاوز ليرى البيت فيشاهد آثار الأنبياء، كيف لا يقطع نفسه عن هواه? ليصل إلى قلبه فيرى آثار "ويسعني". لمحمد بن أحمد الشيرازي:
الفصل الرابع