كتاب المدهش لابن الجوزي 57 ما زالت مطايا السهر تذرع بيد الدجى، وعيون آمالها لا ترى إلا المنزل، وحادي العزم يقول في إنشاده: يا رجال الليل جدوا إلى أن نم النسيم بالفجر. فقام الصارخ ينعي الظلام فلما هم الليل بالرحيل، تشبثوا بذيل السحر. قال علي بن بكار، منذ أربعين سنة ما أحزنني إلا طلوع الفجر، لو قمت في السحر لرأيت طريق العباد قد غص بالزحام، لو وردت ماء مدين وجدت عليه أمة من الناس يسقون:
يا بعيداً عنهم يا من ليس منهم أليس لك نية في لحاقهم? أسرج كميتك، واجرر زمامك، يقف بك على المرعى، يا من يستهول أحال القوم تنقل في المراقي تعل. قال أبو يزيد: ما زلت أسوق نفسي إلى الله وهي تبكي حتى سقتها وهي تضحك.
للخفاجي: كان بشر لا ينام الليل ويقول أخاف أن يأتي أمر وأنا نائم:
بقي بشر خمسين سنة يشتهي شهوة، فما صفا له درهم، وبضائع أعماركم كلها منفقة في الشهوات من الشبهات، أبشروا بطول المرض يا مخلطين:
يا من فاتوه وتخلف بل ثراهم من دمع الأسف.
جز بنادي المحبة وناد بالقوم تراهم كالفراش تحت النيران.
للشريف الرضيّ: تشتد عليهم نار الخوف فيشرفون على التلف، لولا نسيم بذكراهم يروحني، ينبسطون انبساط المحب، ثم ينقبضون انقباض الخائف، هذا اللينوفر ينشر أجنحة الطرب في الدجى، فإذا أحس بالفجر جمع نفسه واستحى من فارط فإذا طلعت الشمس نكس رأسه في الماء خجلاً من انبساطه:
كلما جاء كلامي صعد، كلما زادت الوقود فاحت ريح العود، أفيكم مستنشق? أو كلّكم مزكوم? إني لأجد نفس الرحمن من قبل اليمن، باح مجنون عامر بهواه.
أتجدون يا إخواني ما أجد من ريح النسيم?
الفصل الخامس والثمانون
يا من كل يوم يقدم إلى القبر فارط، لا تغتر بالسلامة فربما قبض الباسط، انهض للنجاة بقلب حاضر وجأش رابط، قبل أن يلقيك على بساط العجز خابط، ونفس النفس تخرج من سم إبرة خائط.
إخل بنفسك في دار المعاتبة، واحضرها دستور المحاسبة وارفع عليها سوط المعاقبة وإن لم تفعل خسرت في العاقبة: لقد وعظك أمس واليوم وأنت من سنة إلى نوم ، أين العشائر? أين القوم? اشتراهم البلى بلا سوم، لا فطر عندهم ولا صوم، بلى بلابل العتاب واللوم هذا رشاش الموج ينذر بالعوم ويخبر بالحادثات أشمامها والروم. يا جامع الحطام ولا يدري ما جنى، كلما نقض الواعظ أصلاً من حرصك بنا، بادر الفوت فإن الموت قد دنا، هذا يشير القبول: إياك عني النثار كثير فما هذا الوقوف والونى? أمدد يد الصدق وقد نلت المنى، هذه الخيف وهاتيك منى، أما تهزك هذه المواعظ? أيها المهزوز أما يوقظك الصريح? ولا المرموز أما كل وقت عود الهلاك? مغموز أما كل ساعة غصن? مقطوع ومحزوز، أما تراهم بين مدفوع وموكوز كل أفعالك إذا تأملت ما لا يجوز، أين أرباب القصور? أين أصحاب الكنوز? هلك القوم وضاع المكنوز وحيز في حفرة البلى من كان للمال يحوز، بينا تغرهم الإناءة وقعت النواة في الكوز أين كسرى أين قصير أين فيروز? عروا عن الأكفان وما كانوا يرضون الخزوز، وأبرز الموت أوجهاً عز عليها البروز، وساوى بين العرب والعجم والنبط والخوز، ونسخ بحسرات الرحيل لذات النيروز، وكشف لهم نقاب الدنيا فإذا المعشوقة عجوز، ما رضيت إلا قتلهم وكم تدللت بالنشوز، لقد أذاقتهم برد كانون الأول فأذاهم في تموز، وإنما قصدت غرورهم لتقتلهم في كالوز. واعجباً، بحر الوجود قد جمع الفنون: العلماء جوهره، والعباد عنبره، والتجار حيتانه والأشرار تماسيحه والجهال على رأسه كالزبد، فيا من يجري به على هواه وهو عليه كالقفيا قف يا قفيا، كم تحضر مجلساً وكم تتردد? وكم تخوف عقبى الذنوب وكم تهدد? يا من لا يلين لواعظ وإن شدد، يا راحلاً عن قريب ما عليها مخلد، تلمح قبرك لا قصرك المشيد وتعلم أن المطلق إذا شاء قيد، أترى تقع في شركي? فإني جئت أتصيد، يا من يسأل عن مراتب الصالحين مالك ولها? تساوم في راحلة وما تملك ثمن نعل تجمع من جوانب الحافات خبازى وتريد أن تطعم أخضر، تطلب سهماً من الغنيمة وما رأيت الحرب بعينك.البلايا تظهر جواهر الرجال، وما أسرع ما يفتضح المدعي.
رأى فقير في طريق مكة امرأة فتبعها فقالت: مالك? فقال: قد سلب حبك قلبي. قالت: فلو رأيت أختي? فالتفت فلم ير أحداً. فقالت: أيها الكاذب في دعواه، لو صدقت ما التفت:
إذا كنت تشتغل اليوم عنا بسوداء فكيف تذكرنا إذا أعطيناك الحور? يا مؤثراً ما يفنى على ما يبقى هذا رأى طبعك هلا استشرت عقلك لتسمع أصح النصائح، من كان دليله البوم كان مأواه الخراب، ويحك، اعزم على مجنون هواك بعزيمة فرب شيطان هاب الذكر، تلمح غب الخطايا لعله يكف الكف، لا تحتقرن يسير الطاعات فالذود إلى الذود إبل، وربما احتبج إلى عويد منبوذ، لا تحتقرن يسير الذنب فإن العشب الضعيف يفتل منه الحبل القوي فيختنق به الجمل المغتلم أو ما نفذت في سدسبا? حيلة جرد من عرف شرف الحياة اغتنمها، من علم أرباح الطاعات لزمها، العمر ثوب ما كف، والأنفاس تستل الطاقات، كم قد غرقت في سيف سوف، سفينة نفس. يا هذا، أنت أجير وعليك عمل فإذا انقضى الشغل فالبس ثياب الراحة، قال رجل لعامر بن عبد قيس: كلمني فقال: أمسك الشمس. دخلوا على الجنيد عند الموت وهو يصلي فقيل له في هذا الوقت? فقال الآن تطوى صحيفتي:
يا ديار الأحباب أين السكان? يا منازل العارفين أين القطان? يا أطلال الوجد أين? أين البنيان?
رحل القوم يا متخلف وسبقوك بالعزائم يا مسوف، فقف على الآثار وقوف متلهف، وصح بالدمع سر يا متوقف. للشريف الرضي:
الفصل السادس والثمانون