كتاب المدهش لابن الجوزي 55 سهر القوم يقع ضرورة، لأن القلق مانع من النوم وليس لهم في تلك الشدائد راحة سوى جريان الدموع.
للسري: من صلى بالليل حسن وجهه بالنهار، شيمة المحبة لا تخفى وصحائف الوجوه يقرؤها من لم يكتب، خذي حديثك في نفسي من النفس، قطعت نياق جدهم بادية الليل ولم تجد مس تعب، الطريق إلى المحبوب لا تطول. يا رب، قرب أرض كنعان من مصر فقد نفذ صبر يعقوب، كان أبو زيد يقول: إلهي إلى متى تحبس أعضاء محبيك تحت التراب? أحشرهم واجعلني جسراً ليعبروا إليك واويلاه أنا أشرب وأنا أطرب، يتركوني أسير وجدي أسير وحدي هلا سعت معي رجل رجل، أو أعانني ساعد مساعد، أين شرطة الرفقة? أو ما العزاء للكل. يا حاضرين عندنا بنية التنزه لستم معنا، عودوا إلى أوكار الكسل فالحرب طعن وضرب، يا مودعين ارجعوا فقد عبرنا العذيب دعونا نخل بالوجد في صحراء نجد، ستأتيكم أخبارنا عن قريب بعد فيد، وأنت أيها الحادي عرض المازمين والخيف تعلمك الدموع كيف ترمي حصن الخذف.
??الفصل الثمانون
يا مقيماً في دائرة دار الغير كم حضرت فيها محتضر، كم عاينت عينك قبراً يحتفر. لقد ألانت مواعظها كل صلد حجر، عجباً لفرخها ما عيد حتى نحر.
يا من إذا عامل خان وظلم، يا من أمر بما ينفعه فلم، هذا القتير في الرأس كالعلم، أبقي بعد نوره يا ظالم ظلم، ألم يقل لك ألم الضعف انتبه، ألم، أين رفيقك? ادلج وقد عرفت المنهج والرحيل قد أزعج وهذا فرس مسرج والبضاعة كلها بهرج.
ويحك تعاهد قلبك فإذا رأيته قد مال إلى الهوى، فاجعل في الجانب الآخر ذكر العقاب ليستقيم، فإن غلبك الهوى فاستغث بصاحب القلب، وإن تأخرت الإجابة فابعث رائد الانكسار خلفها "تجدني عند المنكسرة قلوبهم". يا هذا، أما علمت أن اللطف مع الضعيف أكثر. لما كانت الدجاجة لا تحنو على الولد أخرج كاسياً، ولما كانت النملة ضعيفة البصر أعينت بقوة الشم فبها تجد ريح المطعوم من بعيد فتطلب، لما كان التمساح مختلف الأسنان صار كلما أكل حصل بين أسنانه ما يؤذيه فيخرج إلى شاطئ البحر فاتحاً فاه، طالباً للراحة فيأتي طائر فينقر ما بين أسنانه فيكون ذلك رزقاً للطائر وترويحاً عن التمساح، هذه الخلد دويبة عمياء قد ألهمت وقت الحاجة إلى القوت أن تفتح فاها فيسقط الذباب فيه فتناول منه، هذه الأطيار تترنم طول النهار، فيقال للضفدع ما لك لا تنطقين? فتقول: مع صوت الهزار يستبشع صوتي، فيقال: هذا الليل بحكمك "أنا عند المنكسرة قلوبهم" لما خلق الأخرس لا يقدر على الكلام سلب السمع لئلا يسمع ما يكره، ولا يمكنه الجواب فكل أخرس أطروش، لما تولع الجذام بأظفار أصحابه، صعب عليهم الحك فمنع منهم القمل فليس في ثياب المجذومين قملة، سبحان من هذا لطفه، سبحان من لا يعطف عنا عطفه، ثكلت خواطر أنست بغيرك عدمت قلباً يحب سواك:
إلهي، ادلنا من نفوسنا التي هي أقرب أعدائنا منا وأعظمهم نكاية فينا، إلهي تلاعبت خوادع آمالنا ببضائع أعمارنا فصرنا مفاليس، أغارت علينا خيول الهوى فاستأسرتنا بأسرنا وأوثقتنا من أسرنا ورمتنا في مطامير طردنا، فيا مالك الملك أنقذ حبيسنا وخلص أسيرنا وسير أوبتنا من بلاد غربتنا، كم عدنا مريضاً? وما عدنا، كم رأينا الألحاد تبنى، وما تبنا، كم أبصرنا? وما أقصرنا وانتهينا وما انتهينا يا ملاذ العارفين يا معاذ الخائفين، خذ بيد من قد زلت قدم فطنته في مزلق فتنته أقم من قعد به سوء عمله:
يا من أصلح السحرة فجعلهم بررة، جاؤا يحاربون وخلع الصلح قد خبيت، وتيجان الرضى قد رصعت، وشراب الوصال يروق، فمدوا أيديهم إلى ما اعتصروا من خمر الهوى فإذا به قد استحال خلا، فأفطروا عليه. واعجباً لسكارى من شراب الحب عربدت عليهم المحبة، فصلبوا في جذوع النخل ارتقى سلطان عزمهم إلى سماوات قلوبهم "فأوحى في كل سماء أمرها" واعجباً لعزم صلب ما هاله الصلب، لا تتعرض بنار المحبة إلا أن يكون لقلبك جلد السمندل أو صبر الفراش.
يا هذا، الاحتراق على قدر الاشتياق لما اشتد شوق الفراش إلى النار، تعجل احتراقه وهجم يبتغي الوصال فصال عليه المحبوب: ما علم المحبون أن الصبر محبوب شمروا لحمل البلاء، ثم حلى لهم فعدوه نعمة.
كان الربيع بن خيثم يقول في شدة مرضه، ما أحب أن الله نقصني منه قلامة ظفر. أخواني، لسنا من رجال البلاء فسلوا الله العافية، يضيق الخناق على المحب ويمنع من التنفس، لئن قلت آه لأمحونك.
?الفصل الحادي والثمانون
يا من أنفاسه عليه معدودة وأبواب التقى في وجهه مسدودة، وأعماله بالرياء والنفاق مردودة، غير أن محبة التفريط معه مولودة: كم أسرعت فيما يؤذي دينك ودأبت? كم خرقت ثوب إيمانك وما رأبت? كم فرقت شعب قلبك وما شعبت? كم فاتك من خير وما اكتأبت? يا كاسب الخطايا بئس ما كسبت، جمعت جملة من حسناتك ثم اغتبت، وحصن دينك ثلمت لما ثلبت، وأنت الذي بددت ما حلبت، إن لاح لك أخوك عبته وإن لاحى سببته. يا عقرب الأذى كم لدغت? كم لسبت? تعلم أن مولاك يراك وما تأدبت? تؤثر ما يفنى على ما يبقى ما أصبت، تصبح تائباً فإذا أمسيت كذبت، تمشي مع اليقين فإذا قاربت انقلبت، تعمر ما لا يبقى وما يبقى خربت، تأنس بالدنيا وغرورها وقد جربت كأنك بك في القبر تبكي ما كسبت، لقد حسبت حساباً كثيراً وهذا ما حسبت. يا وادي الشيح كيف يقال لو أعشبت? يا هذا أكثر الأنعام عليك، كف كف فضول الدنيا عنك إذا رأيت سربال الدنيا قد تقلص، فاعلم أنه قد لطف بك لأن المنعم لم يقلصه عليك بخلاً أن يتمزق لكن رفقاً بالماشي أن يتعثر، أحرم عن الحرام بنزع مخيط الهوى لعل جذب القدر يقارن ضعف كسبك:
يا تائهاً في فلات الغفلات، اعل بأقدام الذهن نشز الفكر تلح لك البلد، تركب البحار في طلب الدنيا فإذا أمرت بخير، قلت إن وفقني، أصم الله سمع الهوى فما يسمع إلا ما يريد.
ما أحسن قولك، وما أقبح فعلك، كم يشكو حزيران? نطقك من كانون عزمك، ويحك، بادر در الأرباح ما دام ينثر، فسينادي عن قليل "يا سماء أقلعي" أتحسب تحصيل المعالي سهلاً? نيل سهيل أسهل من أدلج في ليل الصبر فات المكاس، يا من يتعب في التعبد ولا يجد له لذة، أنت بعد في سواد البلد اخرج إلى البادية تجد نسيم نجد، الاعتبار عندنا بالأعمال القلبية، غلبت حرارات الخوف قلب داود فصار كفه كيراً "وألنَّا له الحديد" وقويت روحانية محمد فنبع الماء من بين أصابعه:
أيها المصلي طهر سرك قبل الطهور، وفتش على قلبك الضائع قبل الشروع، حضور القلب أول منزل فإذا نزلته انتقلت إلى بادية العمل، فإذا انتقلت عنها أنخت بباب المناجى، وأول قرى ضيف اليقظة كشف الحجاب لعين القلب، وكيف يطمع في دخول مكة منقطع قبل الكوفة، همك في الصلاة متشبث، وقلبك بمساكنة الهوى متلوث، ومن كان متلطخاً بالأقذار لا يغلف، ادخل دار الخلوة لمن تناجي واحضر قلبك لفهم ما تتلو ففي خلوات التلاوة تزف أبكار المعاني، إذا كانت مشاهدة مخلوق يوم "اُخرُج عليهِنّ" استغرقت إحساس الناظرات "فقطَّعنَ أيديَهُنّ" فكيف بالباب علقت? فعقلت على الباب?