طاف على بابه طبيب الألطاف، فأراد استخراج النصل من باطن الشغاف، فجئنا على عتبة عتابه، بأعتوبة "خصمان" فقضى على نفسه في صريح "لقد ظلمك" فبينا هو يلاحظ لفظ القضية، المعا معا معاني المعاصي ففطن، ففت بالفتى الفاتن فتن فتياه "وظن داود أنما فتناه" فنزل عن مركب العز إلى مس مسجد الذل، وافترش فراش من قد أسا في دار الأسا، وخلع خلع الفرح لجلباب الحزن، وزرّ زرزر مانقة الخوف على شعار القلق، فأسكت الحمايم بنوحه، وشغلها عن صدحها بصوته، فبالغ حريق الندم في سويدا قلبه، وأقلق الأفئدة بشجى شجنه، ومات خلق كثير من الخلق بترنم شجوه وصوته، وشرب عرق العشب من عين عينه، وحشى سبعة فرش رماداً، ثم رمى داء الحشا، بعد أن فرشها فرشها، وكان يقول في مناجاته: إلهي خرجت أسأل أطباء عبادك. أن يداووا لي جرح خطيئتي فكلهم عليك يدلني، إلهي أمدد عيني بالدموع، وضعفي بالقوة، حتى أبلغ رضاك عني.
....:
ما زال يغسل العين من عين العين، ولسان العتاب يقول: يا بعد اللقا، وكلما رفع قصة غصة جاء الجواب بزيادة الجوى، وهو يستغيث وينادي، حتى أقلق الحاضر والبادي:
الفصل التاسع عشر
في قصة سليمان عليه السلام مع بلقيس
ركب سليمان يوماً مركب الريح، فراحت بوادره على وادي النمل، فندت نملة فنادت أخواتها بنداء "لا يحطمنكم" فحملته أريحية سكر الشكر على طرب "فتبسم ضاحكاً" وذلك أنها بلفظ "يا" نادت "أيها" نبهت "النمل" عينت "أدخلوا" أمرت "مساكنكم" نصت "لا يحطمنكم" حذرت "سليمان" خصت "وجنوده" عمت "وهم لا يشعرون"، عذرت، فلما فصل طالوت ملكه بالجنود عن وادي النمل، وقع في مفازة لا يرى فيها على ماء علماً، فجاش جاش الجيش لفقرهم في القفر إلى الماء الما، وكان الهدهد يدلهم على الماء فغاب، فتواعده بلفظ "لأعذبنّه" فجاء ببهت ذكي "أحطت بما لم تحط به" فحمله كتاباً، فألقاه من قاره، بمنقاره، فرأت اليقظى بيقظان فهمها كتاباً مختوماً، كلاماً عجيباً، وحاملاً غريباً، فصادها العقل والفهم فصاداها، فاستشارت قومها فأوموا إلى الحرب بلفظ "نحن أولو قوة" فعلمت أن من جنده الطير لا يقاوم، وبعثت ما يفرق به بين الدعوة والدعوى "وإني مرسلة إليهم بهدية" واعجبا للذهب إذا ذهب سهمه لا يخطي، وللرشا إذا رشت مزالق أقدام العقول لا تبطي.
....:
فلما بدت هوادي هديتها، صاح سليمان بعز "أتمدونني بما" فلما صح عندها ما يدعو إليه وثبت، وثبت على أقدام الطلب، وهيأت مراكب القصد، ورحلت في هجير شمس الهدى على نجائب الهجرة، فلما سمع سليمان برحيلها، أراد تقوية دليلها، فنادى في نادي عفاريته، مستعرضاً جند بطشها "أيُّكم يأتيني بعرشها" فلما جيء به ستره بقرام "نكِّروا" ثم ابتلاها، ليرى ذكاها "أهكذا عرشك" ثم صرح بلفظ "ادخلي الصرح" فشبه لها لضعفها عن لطافة كاس ساقيها، فكشفت عن ساقيها، فلما وصلت وسلمت، أسلمت فسلمت، وحلت قبل أن حلت نطاق النطق، فنثرت خرزات نظامه على نظم العذر "إني ظلمت نفسي وأسلمتُ مع سليمان لله رب العالمين".
الفصل العشرون
في قصة مريم وعيسى عليهما السلام
كانت أم مريم جنة قد حنت إلى ولد، فكبر عليها امتناعه واستولى الكبر، فرأت يوماً طائراً يغذو فرخاً فرحاً، فرجى أملها اليؤوس فرحاً فرجاً، فسألت عند هذه القضية ولديها ولداً، فلما علمت بالحمل أكسبها السرور ولهاً، فوهبته بلسان النذر لمن وهبه لها، فقال القدر: يا ملك التصوير، صور الحمل أنثى، ليبين أثر الكرم في قبول الناقص.
فلما وضعتها وضعتها بأنامل الانكسار عن سرير السرور، فإن لسان التلهف لما ألقى على الفايت "إني وضعتُها أنثى" فجير كسرها جابر "فتقبلّلَها" وساق عنان اللطف إلى ساق زرعها، فربا في ربى "وأنبتها" فانطلقت بها الأم تأم بيت المقدس، فلبس القوم لامهم في حرب "يُلقون أقلامهم" فثبت قلم زكريا إذا وثبت الأقلام فكفتها وكفلها، فأراه المسبب غناها عن السبب. بآية "وجد عندها رزقاً" فرباها من ربها فنشأت لا ترى إلا ربها.
فانتبذت يوماً من أهلها، فأقبل نحو ذلك البري البري بريد "فأرسلنا" فتحصنت الحصان بحصن "إني أعوذ" فانزوى إلى زاوية "إنما أنا رسول ربك" وأخبرها بالتحفة في لفظ "ليهب" فأقيمت فأقيمت في مهب ريح الروح، فتنفست الكلمة من كمين الأمر، فنفخ جبريل في جنب الدرع جيب، فمرت المرأة حاملاً في الوقت، فلما علمت ألمت بما حمل عليها الحمل، فأخرجها الحياء الحي عن الحي، فلما فاجأها وقت الوضع، فاجأها المخاض إلى الجذع، تحيرت من وجود ولد، وما فجرت، فجرت عين الدمع، فصاح لسان الخفر، بلفظ الندب "يا ليتني مت قبل هذا" فأجابها الملك، عن أمر من ملك "أن لا تحزني" وأجرى لها في أواني الأوان سرى، كما وهب لها من الغلمان سرى فسرى عن سرها وجود الظهور، وأنس الظاهر، فسرا، وأريت آية تدل على من قدر القدرة في مقام "وهُزّي" فهزت جذم جذع مايل مثل الحطب، فتساقط عليها في الحال رطب الرطب، فأخذها الجوى، في إعداد الجواب، فقيل لها "كلي" كل الكل، إلى من له الكل، كنت بمعزل من وجود الولد، فكوني بمعزل من إقامة العذر، فالذي تولى إيجاده يقيم عذر العذرا، لا تعجبي من وجود حمل سافر عن أرض القدرة، فلم يصلح أن ينزل إلا بمنزل، أركانه على عمد "إن الله اصطفاك وطهركِ واصطفاكِ" فلما سكتت وسكنت، بعد أن قعدت وقامت، أقامت أيام النفاس فانقضت وفاتت "فأتت بها قومه تحمله" فنادوا من أندية التوبيخ، إذ ما شاهدوا قط أختها "يا أخت هارون" فأضجروا مريضاً قد ضنى من أنين "إني" على فراش "يا ليتني مت" فلما شارت أرى الرأي. أشارت إليه، فأخذت السنة تعجبهم تعج بهم "كيف نكلِّم" فكأنها قالت لهم: أنا طريق وهذا مر بي، والمسافر يسأل عن الطريق لا الطريق عن المسافر، فقام عيسى يمخض أوطاب الخطاب على منبر الخطابة، فأبرز بالمخض محض إبريز الإقرار "إني عبد الله" وأومى إلى وجوده من غير أب، في إشارة "وبراً بوالدتي" وكانت واسطة عقده "ومبشراً برسول".
فلما تم له سن الشباب، جلس على باب المعجزة، يعطي العافية العافية، ويبرئ الأكمه والأبرص، فربما ألفى ببابه خمسين ألفاً يؤمونه في كل يوم، ولقد فرك الدنيا فطلقها أي تطليق، وأبغضها ولا كبغض الرافضي الصديق، فغزاها بجند الزهد بين مسرح وملجم، وفتك بها كما فتك بالتقى ابن ملجم، ما التفت إليها قط وجه عزمه، ولا صافحا يوماً كف قلبه، ولا غازلها يوماً لسان فكره فلم يعرف حقيقة ما حوى سوى الحواريين، فشمروا عن ساق العزائم، في سوق بدن الأبدان إلى منى المنى، تحن بلفظ "نحن أنصار الله" وكتبوا في عقد العقايد "آمنا بالله" فعدلوا بها إلى عدل "واشهد بأنّا مسلمون".
ثم إن اليهود اجتمعوا في بيت "ومكروا" فزلزل عليهم بيد "ومكر الله" فدخل عيسى خوخة، فدخل خلفه ذو دخل فألقى عليه شبهه، فحاق بالمرء مرّ مراده، وصاح فيه حاكم القدر جود مراقيها.
الفصل الحادي والعشرون
في قصة يحيى بن زكريا عليه السلام
لما قام زكريا عليه السلام بإقامة الإقامة لمريم، رأى وكيل الغيب يسبقه بالإنفاذ على يد القدرة في كنّ كن، وكان إذا خرج ثم جاء فاجأ ثم الثمار قد نمت، فكم قد ألفى الفاف الفاكهة الفايقة لا في حينها، فتلمح بعين زرقاء الفهم، فرأى نفقة الجارية جارية، وكيس الأسباب على ختمه، فصاح لسان الدهش "أنّى لكِ هذا" فأحالت الحال على المسبب "هو من عند الله" فنبهت هذه الآية راقد طمعه، بعد أن طال وسنه سبعين سنة، فسن على سنة وجهه ماء رجاء ماء آسن مما لم يتسنه وقام الدردح بعد أن تقعوس وتسعسع وعسى على باب عسى في محراب "دعا زكريا ربه" فسرى بسره سراً، لئلا ينسب إلى فن من أفن، وكتب قصة "لا تذرني فرداً" وشكا ما شيك به مما حل من حل التركيب وشيكاً، في كلمات هن "وهن العظم مني" فلما أورد في قصته، ما يريد حملها بريد الرجاء، إلى من عود العود العود فكشف الجوى في الجواب، لله دره خدم حتى شاب، ثم طلب نابياً على الباب، فأصبح ميت أمله بوجود يحيى، فمشى لمشاهدة وجه القدرة، وقد حال بينهما سفر العادات، إلى أن لفظ بلفظ "إني" وهتف به هاتف "هو عليَّ هيِّن" فسأل علماً على ما يعلم به وجود الحمل، لحمل نفسه على الشكر، فوعد بسجن اللسان، مع سلامة اللسان، إلا عن ذكر الرحمن، ليكون حج نطقه مفرداً.
فلما ولد له يحيى، لم يبلغ مبلغ يافع، إلا وهو ولد نافع، كان صبا الصبا تميل بالصبيان ولا تهزه، فإذا قالوا له هلم بنا فلنلعب، قال: إنما خلقنا للتعب لا للعب، فقط له القدر قطاً من عصام العصمة ما قط لأحد، فما خطا إلى خطأ ولا هم، ولقد رمى الدنيا عن يد التمسك، وعلا عن فضولها على قلل التقلل، فكان عيش عيشه العشب، واقتنع بمسوك الحيوان عن السب والشف والمشبرق، وشغله عن رقش نقش القشيب والدمقس ما لف مما لفق، ولقد دوى في دو فؤاده غيم الغيم فغدا الغدق يدق إلى أن فاض قليب قلبه، فانقلبت عيناه بقلب كالعيون حتى فرت، فحفرت في أخدود الخدود مجرى، ولم يزل معول دمه يحفر ركية خده، حتى بدت فيه أضراس فيه، يا عجباً من بكاء من ما عصى ولا هم، وضحك من كتابه بالذنوب قد ادلهم، فلما قارب الوفاة وفات العدو، علم من آفات النقل في المواطن المخصوصة، بوحش الوحشة، فتخلص فيها من أسد البلاء، كما حمى من ذنب الذنب "يوم وُلد ويوم يموت ويوم يُبعث حياً".
الفصل الثاني والعشرون
في قصة أهل الكهف
كان رقم "كتب في قلوبهم الإيمان" قد علا على كهف قلوب أهل الكهف، فلما نصب ملكهم شرك الشرك، بان لهم خيط الفخ ففروا، وخرجوا من ضيق حصر الحبس إلى الفضاء فضاء لهم، فما راعهم في الطريق إلا راع وافقهم، فرافقهم كلبه، فأخذوا في ضربه لكونه ليسوا من ضربه، فصاح لسلط حاله لا تطردوني لمباينتي جنسكم، فإن معبودكم ليس من جنسكم، أنا في قبضة إيثاركم أسير، أسير إن سرتم، وأحرس إن نمتم، فلما دخلوا دار ضيافة العزلة، اضطجعوا على راحة الراحة من أرباب الكفر، فغلب النوم القوم "ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعاً" وكانت الشمس تحول عن حلتهم لحراسة حلتهم من بلاء بلي، وأعينهم مفتوحة لئلا تذوب بأطباق الأطباق، ويد اللطف تقلب أجسادهم لتسلم من أفن عفن، وجرت الحال في كلبهم، على ما جرت بهم، فكأنه في شرك نومهم قد صيد "بالوصيد".
فخرج الملك بجم جمعه في طلابهم فإذا بهم، فسد الباب وما وعى على وعاء مسك، فأضاع حتى ضاع بيد الملك في بيد الهلك، فانساب راع إلى سبسبهم، ففتح باب الكهف ليحوز الغنم، فهب الهواء فهب الراقد، فترنم أحدهم بلفظ "كم لبثتم" فأجابه الآخر "يوماً" ثم رأى بقية الشمس نقية فاتقى بالورع ورطات الكذب، فعاد يتبع أوب "أو بعض يوم" فلما قفلوا من سفر النوم إلى ديار العادة، زاد تقاضي الطبع بالزاد، فخرج رئيسهم في ثوب متنكر، فضلت معرفته المعاهد، فأقبل يتهم اليقظة، فمد إلى بايع الطعام باعه، فما باعه، وظن أنه قد وجد كنزاً، ولقد وجد كنز "وزدناهم هدى" فحمله القوم إلى الوالي، فقال إنه لمالي، فما لكم ومالي? كنا فتية أكرهنا على فتنة فخرجنا عشية أمس، فنمنا في باطن كهف، فلما انتبهنا خرجت لأبتاع للأتباع قوت القوت، فسار القوم معه في عسكر التعجب، فسمع إخوانه جلبة الخيل، في جلبة الطلب، فتجاوبوا بأصوات التوديع، وقاموا إلى صلاة مودع، فدخل تمليخا فقص عليهم نبأهم، فعادوا إلى مواضع المضاجع، فوافتهم الوفاة، وفات لقاؤهم وسدلت عليهم حجاب الرعب، كف "لو اطّلعت".
إخواني ليس العجب من نائم لم يعرف قدر ما مر من يومه، وإنما العجب من نائم في يقظة عمره.
....: