مجالس الملك
في شهر رمضان كان الراحل الحسن الثاني يحضر مجالس طرب ومسامرة بهدف الترويح عن النفس والتخلص من أعباء التدبير السياسي، وكذلك من أجل تتبع أوضاع الرعية. وقد عرف عنه، أنه كان يكلف جملة من الأشخاص في شهر رمضان، يتجولون بالمغرب لاستقصاء اهتمامات الناس ومعرفة أحوالهم، وكان الملك يجتمع بهم بانتظام للتعرف على ما جمعوه من معلومات ومعطيات. علما أن ظهور الملك في شهر الصيام كان يقل، ولا يظهر إلا مع بداية الدروس الحسنية التي يحضرها يوميا.
مؤنسو الملك
كان الملك الراحل الحسن الثاني لا يستقبل أشخاصا كثيرين في شهر رمضان، لكنه كان يكثر من مجالسة مؤنسيه، إلا الفقيه بين بين، الذي كان غالبا ما يجالسه رأسا لرأس في رمضان. ومن هؤلاء المؤنسين أحمد السنوسي وأحمد البيضاوي ومؤنس مصري شعبي وافته المنية بالمغرب وهو في خدمة الملك، حيث دفن بالرباط. وقد عرف على هذا الأخير أنه كان من عوام الناس كثير البسط والانشراح، وغالبا ما كان يقرأ "الأزلية" و"العنترية" على أسماع الراحل الحسن الثاني قبل أن يتوجه إلى فراشه، لاسيما في فصل الشتاء. كما كان هناك مؤنس يهودي متخصص في رواية الطرائف اليهودية لتسلية الملك، ووافته المنية وهو في خدمة القصر الملكي ودفن بالمغرب أيضا.
الفقيه بين بين أبرز مؤنسي الحسن الثاني
كان الفقيه بين بين آخر شخص سامر الملك الحسن الثاني قبل وفاته، وهو الذي ظل يؤنسه أكثر من ثلاثة عقود. ويعد الفقيه بين بين من أبرز ندماء الراحل الحسن الثاني، إذ كان لا يتركه إلا بعد أن ينام، وكان يطيل مجالسته خلال شهر رمضان، وهو الوحيد الذي كان يجلس بجانبه على متن السيارة. وقال بين بين، بعد وفاة الملك، لم يكن ينام إلا وقد رآه أمامه فيتذكر مجالسته بكل التفاصيل.كما دأب الفقيه بين بين على إضحاك الملك بحكي بعض النكت والطرائف، لكن غالبا ما كان يتحدث معه في شؤون الفكر والشعر والفقه والأدب والتاريخ، ويتبادلان معا القصائد الشعرية، علما أن الراحل الحسن الثاني كان يحب جميع أنواع الشعر ويحفظ المعلقات التي أعجب بها، خصوصا ما يتعلق بالغزل. وغالبا ما كان الفقيه بين بين يتعشى مع الملك قبل مؤانسته، وظل الملك الراحل يصر على حضوره كلما استقبل أو جالس أحد الشعراء المشهورين، وهذا ما حدث مع الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان والشاعر العراقي المهدي الجواهري.و كان بين بين لا يفارق الراحل الحسن الثاني ويلازمه في جميع أسفاره بالداخل والخارج.
ومن أصعب اللحظات التي قضاها رفقة الملك، لحظة الاحتجاز لمدة ثلاث ساعات كانت عصيبة إبان حدوث انقلاب الصخيرات الذي شارك فيه ابنه، وكذلك لحظة عزم الملك الراحل على تقديم استقالته وتخليه عن العرش في حالة فشل المسيرة الخضراء، بعد مصارحة المغاربة بأن عليهم أن يبحثوا عمن يقوم مقامه. وفي هذا الصدد يقول الفقيه بين بين في تصريحه لصحيفة "الجريدة الأخرى"، إن الراحل الحسن الثاني امتنع ثلاثة أيام متتالية عن تناول الطعام منهمكا في تفكير قدسي عميق بهذا الخصوص. وكان ذلك في سنة 1975، ولم يكن الملك الراحل الحسن الثاني غاضبا عندما كشف عن نية استقالته، لكن القلق كان باديا عليه، واختفى عن الأنظار ثلاثة أيام بأكادير لم يتحدث فيها مع أحد. كما كشف الفقيه بين بين عن حادثة طريفة، مفادها أن أحد الصحفيين الإسبان حضر إلى المغرب لتغطية المسيرة الخضراء، وأجر سيارة لاقتياده إلى الصحراء، وفي طريقهما سمع السائق المغربي، عبر الراديو، خطاب الملك الذي أمر فيه بإيقاف المسيرة الخضراء بعد أن حققت هدفها، فامتثل توا للأمر وانحاز إلى جانب الطريق ثم أوقف محرك السيارة، وعندما استفسره الصحفي مندهشا أجابه السائق قائلا: "لقد أمرنا الملك بالتوقف، ولا يمكن مخالفة أمره".و دأب الملك الراحل الحسن الثاني على وصف مؤنسه، الفقيه بين بين، بأكبر راوية لشاعر الحمراء، ابن إبراهيم، صاحب قصيدة المقهى البلدي.
في ليالي رمضان كان الراحل الحسن الثاني يحب سماع الشعر من إلقاء مؤنسه حتى يذهب إلى فراش نومه، إذ كان يقرأه عليه حتى يغفو، ولم يكن بين بين يغادر القصر إلا قبل أذان الصبح. وحسب الفقيه بين بين، إن غضب الملك غالبا ما كان مستطيرا، وإذا كان غاضبا لا يتكلم إلا بالإشارة، لكن حين يكون مسرورا يحب السماع للشعر والنكت والطرائف، وكان يسمع ويحكي كذلك، لكن في شهر رمضان لم يكن غضب الملك يطول كما هو الأمر في الأيام العادية.وقد التقى الملك الراحل الفقيه بين بين لأول مرة بفضل قصيدة ألقاها بمناسبة عيد العرش ووصل مضمونها إلى علم الملك، وكان مطلعها:
هل يرتديني العرش من شعرائه
وأنا حليف الشعر تحت لوائه
أفلا يغني الطائر الغريد
في روض أتى الروض حسن غنائه
فأنا ذلك الغريد...
بعث الراحل الحسن الثاني في طلب الفقيه بين بين ودام لقاؤهما أكثر من ثلاث ساعات في أحد أيام رمضان، ثم كلفه بجمع ديوان شاعر الحمراء، وبعد انجاز المهمة عينه كأحد مؤنسيه فامتثل الفقيه بين بين للأمر وظل بجانبه إلى أن وافته المنية سنة 1999.
مجالسة الفنانين
في بداية عهده كان الراحل الحسن الثاني يخصص بعض أيام شهر رمضان لمجالسة الفنانين المغاربة والعرب، من أمثال محمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ ووديع الصافي وأم كلثوم وصباح وغيرهم، وبعض الشعراء العرب، وهم الذين أقروا، قبل المغاربة، بأن الملك الراحل كان الفنان الأول. وقد عرف عن جلالته أنه كان يهتم بالمجال الموسيقي، وكان قد خصص له وقتا عندما كان يتابع دراسته بفرنسا قبل أن يخيره والده الراحل محمد الخامس بين الاهتمام بشؤون الملك أو التفرغ للموسيقى والفن، وقد عرف عنه أنه كان يخصص وقتا خاصا وحميميا للموسيقى، لاسيما في شهر رمضان. وهناك أغنيات وطنية كثيرة ولدت في شهر رمضان، في وقت كان هذا الصنف نوعا من التزلف للملك، بمناسبة أو غير مناسبة، الشيء الذي جعلها تتحول إلى أداة سياسية تستهدف امتلاك أحاسيس المغاربة وشعورهم، رغم أن تأثيرها على أغلب المغاربة كان عكس المنتظر منها بفعل تكرارها أكثر من اللازم في المناسبات الوطنية، إذ كانت تستحوذ على ساعات البث الإذاعي والتلفزي، كما شكلت نوعا من التكسب، إذ أن جميع الفنانين كانوا يتنافسون في هذا المجال أكثر من أي مجال فني آخر.
للانتقال للجزء 1 2 3 4 5 6