اعتقادات سادت طويلا
ظل الكثير يعتقدون أن حياة القصور في عهد الملك الراحل الحسن الثاني في شهر رمضان مطبوعة بمشاهد من ألف ليلة وليلة. كما شاعت في الأوساط الشعبية جملة من الاعتقادات، منها "التبارود"، وهي خليط قيل إنه يهيأ في إحدى ليالي رمضان ويدهن به الملك وجهه لبعث الهيبة. كما أن أهل القصر كانوا ينفرون من مصادفة عيد الفطر وعيد الأضحى يوم الجمعة، باعتباره إشارة لحدوث شؤم ما، وهذا أمر ارتبط بمعتقدات أخرى تلفها بعض الغرابة، مثل عدم الزامية قيام الملوك العلويين بالحج وعدم عبور واد ماسة، لذا كان الملك الراحل الحسن الثاني، في زياراته إلى الجنوب، حينما يصل موكبه إلى واد ماسة، جنوب أيت ملول، في الطريق المؤدية إلى تزنيت، يغادر السيارة أو الحافلة ويركب طائرة مروحية تنقله إلى الجانب الآخر لواد ماسة من جهة البحر تلافيا لعبوره. ومن التقاليد التي ظلت سارية المفعول بالبلاط، لاسيما في شهر رمضان، أن المكلفين باللباس السلطاني الرسمي دأبوا على احترام بعض القواعد، وهي بمثابة إشارات يفهمها أهل القصر.
كان الخدم القائمون على اللباس السلطاني يحترمون مقاييس مضبوطة للجزء الظاهر من "الشاشية" الحمراء تحت العمامة البيضاء، وقيل إن كبر أو صغر ذلك الجزء الظاهر منها يدل على مزاج الملك في ذلك اليوم، فكبر الحجم الظاهر يشير إلى أن السلطان غاضب، والعكس صحيح، ذلك أنه إذا لم تظهر الشاشية الحمراء من تحت العمامة البيضاء، فيعني ذلك أن الملك في حالة من الحبور ولا يمكن طلب أي شيء منه.
جولان الملك مختفيا
كثيرون هم الذين ظلوا يعتقدون أن الملك الراحل الحسن الثاني كان يتجول متخفيا، لاسيما في شهر رمضان. وحسب أخبار متناثرة هنا وهناك، تمكن بعض المواطنين من كشف هوية الملك وهو يتجول متخفيا وسط الرعية، ومنهم من كانوا سريعي البديهة فانقضوا على الفرصة لطلب تحقيق بعض رغباتهم وتحقيق أمنياتهم. وفي هذا الصدد تناسلت أخبار، منها خبر بائعة الخبز الفقيرة التي تحولت إلى تاجرة ذات رأسمال شخصي بفضل هبة ملكية مهمة.. وخبر سائق طاكسي صغير أجير، فاز بمبلغ مالي مكنه من اقتناء طاكسي خاص يديره بنفسه.
ومن القصص التي راجت بين المغاربة في بداية العهد الحسني، أن الملك الراحل الحسن الثاني، كان يقوم بما كان يقوم به والده الراحل محمد الخامس في شهر رمضان، إذ كان يمتطي صهوة جواده قُبَيْل آذان المغرب ويقوم بجولة خارج المشور بجانب الأسوار القديمة، فيخرج من باب زعير ليحيط بالمشور ويدخل من باب السفراء، وغالبا ما كان بعض المواطنين يستقرون ببعض الأماكن ويتناولون وجبة الإفطار بها، سعيا لمقابلة الملك من أجل تلبية بعض طلباتهم، إلا أن هذه العادة الملكية انقطعت مع توقيف مراسيم صلاة الجمعة بعد منتصف ستينات القرن الماضي. وفي نظر الكثير من المغاربة، كان الملك الحسن الثاني يعرف دقائق أحوال رعيته من خلال التجول متخفيا أو عبر تكليف أشخاص لاستقصاء الأحوال عن قرب وبالمعاينة اللصيقة.
رؤية الهلال وتليفون المساجد
في بداية عهد الملك الراحل الحسن الثاني كانت بشرى رؤية الهلال تنطلق من القصر الملكي بالرباط، إذ كان يصعد إلى سطح القصر عازف "الغيطة" ذائع الصيت آنذاك في العدوتين (الرباط وسلا)، "الكمرة"، فينطلق بإنشاد مقطوعات مشهورة، وقد قيل عنه إنه كان "يكلم الغيطة كما يريد ويشاء" بفعل إتقان استعمالها، كيف لا وهو "غياط" القصر. وبعد ذلك دأبت التفلزة المغربية على بث صور "الكمرة" وهو يعزف على "الغيطة" قبل الإعلان عن بشرى ثبوت رؤية الهلال، وقد دام الحال على هذا المنوال لمدة سنوات عديدة، لدرجة أصبح ظهور "الكمرة" بتلفزة دار البريهي مرتبطا ببشرى قدوم شهر رمضان أو الإعلان عن نهايته وقدوم عيد الفطر.
وحدث في إحدى السنوات أن تم الإعلان عن ثبوت رؤية الهلال بعد طلوع شمس اليوم الموالي، إذ كان المغاربة ممسكين، معتقدين أن رمضان لم ينته بعد، وقد تم حلول عيد الفطر في الساعة العاشرة صباحا.و في السنة الموالية أمر الملك الراحل الحسن الثاني بتزويد كبريات المساجد بمختلف المدن بخطوط الهواتف حتى يتمكن مراقبو بروز الهلال من إخبار الوزارة فور رؤيته حتى لا يتكرر ما حدث في السنة الماضية. ومنذ ذلك الوقت، خلافا لباقي الوزارات التي تدخل مرحلة سبات في شهر رمضان، بدأت وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف تعرف نشاطا ملحوظا مع اقتراب شهر رمضان وخلاله، أكثر من نشاطها باقي السنة، إذ أضحت تسهر بجدية على ترميم المساجد وتغيير أفرشتها والحرص على تزويد بعضها بخطوط الهواتف.
"حصيرة" مسجد أهل فاس
"تاحاصرت"، من المهن التقليدية التي كانت تزخر بها المدن العتيقة، وكان "الحصارة" (أصحاب هذه المهنة) ينتظرون بفارغ الصبر قرب قدوم شهر رمضان، إذ كانت الحركة تنشط عندهم بحلول شعبان بفعل طلبات "الحصير" (بساط مصنوع من نوع من الدوم) من طرف وزارة الأوقاف والزوايا والأضرحة لتغيير أفرشتها.و في أحد الأيام الرمضانية، حضر الملك الراحل الحسن الثاني على حين غرة إلى مسجد أهل فاس بالمشور لصلاة التراويح، وعند خروجه، يقول شاهد عيان، لاحظ الملك حصيرا من "البلاستيك" ملفوفا بالقرب من الباب، فأمر بتنحية كل "حصيرة بلاستيكية" بذلك المسجد وتعويضها بالحصير التقليدي المصنوع من الدوم، وقال للقائم على المسجد، بصوت تلفه علامات الغضب البين: "واش بغيتوا تَقْضِيوْ على تاحصارت".
عندما تزامنت مراسيم البيعة مع رمضان
في منتصف عهد الملك الراحل الحسن الثاني، تزامن عيد العرش ومراسيم تقديم البيعة مع شهر رمضان، واقترح أحد المقربين تنظيمها بعد أذان المغرب، فواجهه الملك بدرس مستفيض بخصوص البيعة ومدلولها وميقات تقديمها منذ أن تولت الأسرة العلوية زمام الأمور بالمغرب، وتفاجأ صاحب الاقتراح من سرد المصادر وأمهات المخطوطات والكتب الغزيرة التي استقى منها الملك الراحل معلوماته، مع الوقوف على إشارات قوية دالة على استمرار نفس الطقوس وفي ذات الميقات دون تغيير على امتداد عقود، إذ لم يكن اختيار حفل تقديم البيعة اعتباطا، وإنما هي ديمومة مظاهر لبنات السلطة ولا يصح تغيير ميقاتها وأجواء أدائها ولو في شهر رمضان، وذلك باعتبارها رباطا بين الملك ورعيته، علاوة على أنها مظهر من مظاهر الهيبة والخضوع التي لا يمكن زعزعتها مهما كان الأمر، فمراسيم البيعة رهينة بفكر سياسي "سلطاني" (وهو التعبير الذي استعمله الملك الراحل)، غير مدون كله، لكنه ظل حاضرا باستمرار، ويمتد تاريخه على الأقل منذ عهد المرابطين وجوهر هذا الفكر يقوم على شخصية الحاكم السلطاني، وهو ما تكرس بقوة على امتداد عهد الملك الراحل الحسن الثاني.
أجواء رمضان بالبلاط
خلال عهد الملك الراحل الحسن الثاني لم تكن أجواء الحياة اليومية بالبلاط تختلف كثيرا في شهر رمضان، إذ يظل الملك متفردا، من حيث طريقة اللباس والمأكل والإقامة والترفيه أيضا. ففي رمضان عرف عن الملك الراحل بقاؤه مدة أطول بجناحه الخاص محاطا بخواصه دون تخليه عن عادته في تفقد أحوال القصر خلال النهار والليل. ولم تكن المائدة الملكية خاصة في شهر رمضان، وإنما تظل مشابهة لباقي الأيام، وهي غالبا ما تحضر للتشريف وليس للشَّبَع، ونادرا جدا ما كان يحضر غريب عن أهل القصر ضيوفا حول مائدة الملك خلال شهر رمضان، وإذا حضر فلا ينبس بكلمة إلا إذا أذن له الملك، وإذا رفع الملك يده عن الطعام يكف الحاضرون عن الأكل، فيأمرهم الملك بالاستمرار إذا رغبوا في ذلك. وحسب العالمين بخبايا البلاط في العهد الحسني، كان يسود في شهر رمضان عدم القدرة على مكالمة الملك مباشرة، إلا في بعض المناسبات حيث يرفع فيها نسبيا هذا المنع وذلك بشروط دقيقة تنظمها طقوس صارمة، إذ، في شهر رمضان، كان أهل القصر يحرصون أكثر على ضرورة احترام المسافة الواجبة للملك.
قبل مرضه، كانت مجالس الملك لا تنتهي، وفي هذا الصدد يؤكد الصحفي الفرنسي "إريك لورون" (وهو الذي قضى وقتا طويلا رفقة الملك قبيل رحيله، عندما كان يعد لكتاب "ذاكرة ملك")، أن الراحل الحسن الثاني في آخر أيامه لم يعد يستقبل الكثير من الناس كما كان في الماضي، وكان يبدو متعبا ومرتخيا، كأنه يشعر بعزلة كبيرة في دواخله، فبصفته ملكا قويا وشديد البأس، كان ذكيا جدا وفطنا لدرجة لا تقوى وضاعة وتملق المحيطين به أن تخضعه، لكنه كان ملتصقا بالتقاليد والطقوس البروتوكولية، لذلك كان يقبل بالكثير من أنواع التملق. لكن الشهادات التي صدرت عن خصومه أجمعت على الإشادة بخصاله كرجل دولة كبير.و كان من عادة الملك الراحل الحسن الثاني، لاسيما في شهر رمضان، أن يبخر المكان الذي ينام فيه بالعود القماري، رغم تنبيه الأطباء بالتخلي عن هذه العادة المؤثرة على صحته، لكنه كان يعشق رائحته ويعتبره أحسن الهدايا التي تقدم إليه. وحسب بعض المقربين من جلالته، كان الراحل الحسن الثاني غالبا ما يبعث لإشاعة روح الدعابة في شهر رمضان، ولم يكن ينقطع عن سرد الكثير من النكت في بداية عهده، بل منذ كان وليا للعهد. في حين قال آخرون إن مزاج الملك الراحل كان قابلا للتغيير بسرعة ذلك أن شخصيته مركبة ومتداخلة الأبعاد. وفي رمضان سنتي 1971 و1972 انقطع كثيرا عن الظهور، واتضحت عدم ثقته بالمحيطين به والمقربين منه