كتاب المدهش لابن الجوزي65
الفصل التاسع والتسعون
يا هذا هون بأمر الدنيا تهن، وقدّر أنها قط لم تكن، واحفظ دينك من مكرها وصن، فمتى وفت ومتى لم تخن? للمتنبي: إنما الدنيا حلم نائم، وقائلة راقد، ومعبَر مُعتبِرْ وضحكة مستعبِرْ، تالله ما أعجب بمالها من نظر في مالها، ولا بنى قصورها من عرف غرورها، ولا مد باع الأمل فباع وشرى بها من تذكر مر شرابها، إنها إذا طغت على الطعام تطغى، وإذا بغى نكاحها على العفاف تبغى، وكأنها تقصد هلاك محبها وتبغى، وكم عذلت في فتكها بالفتى الفتى? وتلغى، أما دردرها فغرت? فلما فرغت فغرت فاها فرغت للظعن، أما سحبت قرون قارون مع أقرانه إلى القرار في قرن، أما كفكفت بكفها كف مكفوف حبها فأرتك فن ما يكون فيك في كفن، تالله لقد لقي الغبي غب غباوته فلما انجلى غيهب عيبته رأى الغبن والغبن.
يا أرباب اللمم الشماط، الموت بكم قد أحاط، هذا العدو منازل فالزموا الرباط، ما هذه الفتور? ومهر الحور الجد والنشاط، إياكم والزلل فكم من دم أشاط? أما سمعتم منادي "وتلكَ القُرى أَهلكْناهُمْ"، أما ينذركم أعلام "وكذلكَ أَخْذُ رَبِّكَ"، أما يفصم عرى عزائمكم "وكم قَصَمْنا منْ قريةٍ"، أما يقصر من قصوركم "وبئرٍ معطَّلةٍ وقصرٍ مَشيد"، أما سمعتم هاتف العبر ينادي "فكُلاًّ أخذنا بذنبِهِ"، إذا رأيتم المبارزين بالخطأ قد اتسع لهم مجال الإمهال فلا تستعجل لهم "إنما نُملي لهُمْ"، بينا القوم على غرور سرورهم "أَخذْناهُمْ بَغْتَةً"، يا سالكي سبيلهم انحرفوا عن هذه الجادة.
يا هذا: ظلمك لنفسك غاية في القبيح، إلا أن ظلمك لغيرك أقبح، ويحك إن لم تنفع أخاك فلا تؤذه، وإن لم تعطه فلا تأخذ منه، لا تشابهن الحية فإنها تأتي إلى الموضع الذي قد حفره غيرها فتسكنه، ولا تتمثلنَّ بالعقاب فإنه يتكاسل عن طلب الرزق ويصعد على مرقب عال، فأيّ طيرٍ صاد صيداً اتبعه، فلا تكون له همة إلا القاء صيده والنجاة بنفسه، في الحيوانات أخيار وأشرار كبني آدم فالتقط خير الخلال. وخلِّ خسيسها، ولا تكن العصافير أحسن منك مروة، إذا أوذي أحدهما صاح فاجتمعن لنصرته، وإذا وقع فرخها طرن حوله يعلمنه الطيران. يا هذا: تخلَّق بإعانة الإخوان بخلق النملة فإنها قد تجد جرادة لا تطيق حملها فتعود مستغيثة بأخواتها فترى خلفها كالخيط الأسود قد جئن لإعانتها، فإذا وصلن بالمحمول إلى بيتها رفهنه عليها، هيهات إن الطبع الردي لا يليق به الخير، هذه الخنفساء إذا دفنت في الورد لم تتحرك فإذا أعيدت إلى الروث رتعت، وما يكفي الحية أن تشرب اللبن حتى تمج سمها فيه وكلٌّ إلى طبعه عائد، إلاّ أن الرياضة قد تزيل الشر جملة وقد تخفف، كما أن غسل الأثر إن لم يزله خفف، إن دمتَ على سلوك الجادة رجونا لك الوصول وإن طال السرى. يا هذا: الفيل والجمل يسْبحان ولكن الفيل مليح السباحة، والجمل يسبح على جنب فيفتضح عند سباحة الفيل، ثم كلاهما يعبر، إذا لم تطق منازلة الحرب فكن من حراس الخيم إذا رأيت الباب مسدوداً في وجهك فارض بالوقوف خارج الدار مع السؤال، إذا لم تظفرك الحروب فسالم، أترى يصلح هذا القلب بعد الفساد? أترى يتبدل بالبياض هذا السواد? كم أقول عسى أصلح? ولعل وكلما استوى قدمي زل، كم تتغير الأحوال? وما أتغير، كم تصح لي الطريق وأتحوّل:
إلى كم تقول سأتوب? ألم يخجل اللسان الكذوب: إذا كانت كرة القلب بحكم صولجان التقليب بطلت الحيل. لما قرب جبريل وميكائيل اهتزت الملائكة فخراً بقرب جنسها من جناب العزة، فقطع من بين أغصانها شجرة هاروت وكسر فنن ماروت، وأخذ من لبها كرة "وإنَّ عليكَ لعنتي" فتزودت الملائكة في سفر العبودية بزاد الحذر، وقادت في سبل معروفها بخت التطوع للمنقطعين "ويستغفرون لمن في الأرض" نودي من نادى الأفضال "من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها" فسارت الأعمال إلى باب الجزاء فصيح بالدليل "ولولا أن ثبَّتناك" فقال "ما منكم من ينجيه عمله".
فيا لسان القلق تكلم بعبارة الدمع لعله يقع في سمع القبول، فمراد الممرض أنين المبتلي. النظر في هذه الأمور قلقل قلوب العارفين، فكانوا يبكون الدماء، اجتمعت أخوان القوم على القلوب فأوقدت نار الحذر، فكان الدمع صاحب الخبر فتم، أقلقهم الخوف والفرق أطافت بقلوبهم الحرق، لباسهم ملفقات الخرق طعامهم ما حضر واتفق، يا نورهم إذا جن الغسق يا حسن دمعهم محدقاً بالحدق انقطع السلك. فسالت على نسق، فكتبت عذرها في الخد لا في الورق، ذابت أجسامهم فلم يبق إلا رمق، فلاحظهم العفو لطفاً بهم ورفق، لو رأيتهم يتشبثون بذيل الظلام ويأنسون بنوح الحمام ويهربون إلى الفلوات وغاية لذاتهم الخلوات. نواح الحمام مسخر للمشتاق لا يريد منه أجرة بينهما أنس ممزوج بمنافرة:
??الفصل المائة يا من أنفاسه محفوظة وأعماله ملحوظة، أينفق العمر النفيس في نيل الهوى الخسيس?
أما عمرك كل يوم ينتهب? أما المعظم منه قد ذهب? في أي شيء، في جمع الذهب? تبخل بالمال والعمر تهب، يا من إذا خلا تفكر وحسب، فأما نزول الموت فما حسب، لك نوبة لا تشبه النوب، بين يديك كربة لا كالكرب، تطلب النجاة ولكن لا من باب الطلب، تقف في الصلاة إن صلاتك عجب، الجسم حاضر والقلب في شعب، الجسد بالعراق والقلب في حلب، الفهم أعجمي واللفظ لفظ العرب، أنا أعلم بك منك حب الهوى قد غلب، ومتى أسر الهوى قلباً لم يفلح وكتب.
كأنكم بالدنيا التي تولت قد تولت، وبالنفوس الكريمة قد هانت وذلت، وبكؤوس الأسى قد انهلت وعلت، وبحمول الظاعنين على الأسف قد استقلت، متى يقال لهذه الغمرة التي جلت قد تجلت? واعجباً لنفس ما تتنبه وقد زلت، كلما عقدنا عقدة تنفعها حلت، كم مستيقظ وقد فات الوقت ينظر إلى نفسه بعين المقت، ويصيح بنصيحة لقد صدقت، وينادي الكسل أنت الذي عوقت فيجيبه أنت من سكرك ما أفقت، كم قدم إلى القبور قادم? كلهم على فراش الندم نادم. إلى كم بالهوى تغري وتلهج? أنسيت أنك عن محبوبك تزعج? تفكر في حلة من البلى لك تُنسج، يا من بضاعته كلها بهرج، ضيقت على نفسك. فلا مخرج، انتبه سريعاً فالخيول تسرج: يا عبيد فلسه يا عدو نفسه تعانق الدنيا بيد الحرص عناق اللام للألف، وتنزل الدرهم من القلب منزلة البرء من الدنف، ترش ماء العيش حول الحانوت وتنظر إلى الدرهم لا فيه، وتنصب ميزان البخس ومكيال التطفيف "والغدر ثالثة الأثافي" ويحك أتبحث عن حتفك بظلفك? وتجدع بسيفك مارن أنفك، ما أكرم نفسه قط من لم يهنها، فاحذرها فكل ما يجري عليك منها، حاسبها قبل يوم الحساب وزِنْها، وخف شين شينها إن شئت عزها وزنها، واحفر لها زبية العزلة وإن أبت فادفنها، واحضرها على الرغم في رغام مسكها ومسكنها، دنها بما التذت آلاتها لا تهادنها.
هذه قصص النجاة، قد أمليتُها فعنونها، هذه جوار شنات المواعظ قد جمعتها فاعجنها، يا موثق الأقدام بقيد العوائق، أجود ما للعصفور قطع السباق، لو تفكر الطائر في الذبح ما حام حول الفخ، من طلب المعالي سهر الليالي، لولا صبر المضمر على قلة العلف ما قيل سباق:
سينقشع غيم التعب عن فجر الأجر، كم صبر بشر عن شهوة حلوة، حتى سمع كلمة خلوة، كل يا من لم يأكل ما مد سجاف نعم العبد على قبة "ووهبنا له" حتى جرب في أمانة "إنا وجدناه صابراً" من لم تبك الدنيا عليه لم تضحك الآخرة إليه. كان بعض النجارين يبيع الخشب وكان عنده قطعة آبنوس ملقاة تحت الخشب فاشتريت منه فدخل دار الملك بعد مدة فإذا بها قد جعلت سريراً للملك فوقف متعجباً وقال: لقد كنت لا أعبأ بهذه فكيف وصلت إلى هذا المقام? فهتف به لسان المفهم نائباً عنها: كم صبرت على ضرب الفوس ونشر المناشير? حتى بلغت هذا المقام:
لمن أصفى واصف? أفي عزمك اتباعي فأقف? الليل يضج من طول نومك والنهار يستغيث من قبح فعلك:
آخر الفصول المائة قال المنشئ: ولما أتممت المائة التي ضمنتها رأيت الثلاثة الأول كالخارج عن الوعظيات لمشابهتها القصص، فغرمت ها هنا ثلاثة عوضها لتخلص مائة وعظية والله الموفق.
الفصل الأول
أخواني: الموت مقاتل يقصد المقاتل، فما ينفعك أن تقاتل.
للمتنبي: