كتاب المدهش لابن الجوزي 40 تالله ما صح من يطلبه مرضه، ولا سر من سير وصل حل غرضه ولا استقام غصن يلويه كاسره، ولا طاب عيش الموت آخره، إن الطمع لعذاب، وحديث الأمل كذاب، وفي طريق الهوى عقاب، وآخر المعاصي عقاب، فلا يخدعنك ضياء ضباب، ولا يطمعنك شراب سراب، فمجيء الدنيا على الحقيقة ذهاب، وعمارة الفاني إن فهمت خراب، وفرح الغرور ثبور واكتئاب، ودنو الشيب ينسخ ضياء الشباب وكلما نادى الأمل "فأبلغه مأمنه" صاح الأجل "فضرب الرقاب".
يا تايهاً في ظلمة ظلمه. يا موغلاً ف مفازة تيهه، يا باحثاً عن مدية حتفه، يا حافراً زبية هلكه، يا معمقاً مهواة مصرعه، بئس ما اخترت، لأحب الأنفس إليك، ويحك، تطلب الجادة ولست على الطريق، كم فغر الزمان بوعظه فماً، فما سمعت "لينذر من كان حياً" كيف تطيب الدنيا? لمن لا يأمن الموت ساعة، ولا يتم له سرور يوم إذا كان عمرك في إدبار، والموت في إقبال: فما أسرع الملتقى، لقد نصبت لك أشراك الهلاك، والأنفاس أدق الحبائل، يا ماشياً في ظلمة ليل الهوى لو استضئت بمصباح الفكر فما تأمن من بئر بوار، الشهوات مبثوثة في طريق المتقين، وما يسلم من شرها شره الأولياء في حرم التقوى "ويُتخطَّف الناسُ من حولهم" الدنيا مثل منام والعيش فيها كالأحلام، قيل لنوح عليه السلام يا أطول النبيين عمراً كيف وجدت الدنيا? قال: كدار ذات بابين، دخلت من باب وخرجت من باب.
يا ثقيل النوم، أما تنبهك المزعجات? الجنة فوقك تزخرف، والنار تحتك توقد، والقبر إلى جانبك يحفر وربما يكون الكفن قد غزل، أيقظان أنت اليوم أم حالم، يا حاضراً يرى التائبين، وهو في عداد الغائبين.
عاتب نفسك على هواها فقد وهاها، قل لها ادرجي درج المدرج وقد لاحت مني، لا يوقفنك في الطريق طاقة من أم غيلان، فالخبط في المنزل مهيؤ لك، تلمح عواقب الهوى يهن عليك الترك، تفكر في حال يوسف لو كان زل من كان يكون? هل كانت إلا لذة لحظة وحسرة الأبد، عبرت والله أجمال الصبر سليمة من مكس وبقيت مديحة "إنه من عبادنا المخلصين".
يا هذا، احسب صبر يومك ساعة نومك تحظ في غداة برغدك، البدار إلى الشهوات والندامة فرسا رهان، والتواني عن التوبة والخيبة رضيعا لبان، واعجباً غرتك حبة فخ فحصلت وما حوصلت، اليوم واطرباً للكأس، وغداً واحرباً للإفلاس، آه من حلاوة لقم أورثت مرارة نقم، تأمل العاقبة لا يحصل إلا لنا قد يصير، من تلمح إذا تلا "وإذا ابتلى إبراهيمَ ربُّه بكلماتٍ" وعرف قدر مدح "فأتمهنّ" علم أنه لم يبق في فيه شيئاً من مرارة البلى مرارة "وإذا ابتلى" ضجت الملائكة حين هموا بإلقائه في النار، فقالوا ائذن لنا حتى نطفي عنه، فقال تعالى: إن استغاث بكم فأغيثوه وإلا فدعوه. فلما ألقي عرض له جبريل، وهو يهوي في الهواء فأراد أن ينظر هل للهوى فيه أثر? فقال: ألك حاجة? قال: أما إليك فلا، فأقبل بمنشور "وإبراهيم الذي وفَّى".
الفصل السادس والأربعون
يا مجتنباً من الهدى طريقاً واضحاً، افتح عين الفكر تر العلم لائحاً، احذر بئر الغفلة فكم غال سائحاً، وتوق بحر الجهل فكم أغرق سابحاً. يا معدوماً في الأمس، فانياً في الغد، عاجزاً في الحال، من أنت حتى تغتر بسلامتك? وتنسى حتفك? وأملك بين يديك وأجلك خلفك، وكتابك قد حوى تفريطك، كم نُهيت عن أمر? فما كفك النهي أن تبسط كفك، يا من قد طال زلله وتعثيره، تفكر في عمر قد مضى كثيره، يا قلباً مشتتاً قل نظيره، كم هذا الهوى? ولكم هوى أسيره? أيها القاعد عن أعالي المعالي، سبق الأبطال والبطال ما يبالي، ستعرف خبرك يوم عتابي وسؤالي، وستقول عند الحساب مالي ومالي، أعمالك إذا تصفحت لهواك لآلي، لو أثر فيك وعظي ومقالي لكنت لحر الحسرات على حر المقالي.
ويحك، إنما يكون الجهاد بين الأمثال، ولذلك منع من قتل النساء والصبيان، فأي قدر للدنيا حتى يحتاج قلبك إلى محاربة لها? أما علمت شهواتها جيف ملقاة، أفيحسن بباشق الملك أن يطير عن كفه إلى ميتة? مهلاً "لا تمدنَّ عينيك" لو علمت أن لذة قهر الهوى أطيب من نيله لما غلبك، أما ترى الهرة تتلاعب بالفأرة ولا تقتلها ليبين أثر اقتدارها وربما تغافلت عنها، فتمعن الفأرة في الهرب فتثب فتدركها ولا تقتلها إيثاراً للذة القهر على لذة الأكل، من ذبح حنجرة الطمع بخنجر اليأس أعتق القلب من أسر الرق، من ردم خندق الحرص بسكر القناعة ظفر بكيمياء السعادة، من تدرع بدرع الصدق على بدن الصبر هزم عسكر الباطل، من حصد عشب الذنوب بمنجل الورع طالبت له روضة الاستقامة، من قطع فضول الكلام بشفرة الصمت وجد عذوبة الراحة في القلب، من ركب مركب الحذر مرت به رخاء الهدى إلى رجاء النجاة، من أرسى على ساحل الخوف لاحت له بلاد الأمن، إلا عزيمة عمرية، إلا هجرة سلمانية جاءت بمركب عمر، جنوب المجانبة للحق إلى دار الخيزران، فلما فتح له الباب انقلب شمالاً، مد يده لتناول خمر الفتك فاستحالت في الحال خلاً، جاء وكله كدر، فلما دنا من الصفا صفا، كان ماء قلبه لما جنى ملحاً آجناً فلما تلقاه النذير بالعذاب عذب. سقم قلب سلمان من معاناة أمراض المجوس، فخرج إلى أودية الأدوية فالتقطته يد ظالم، وما عرفت، فهان على يوسف البيع ليلقى العزيز فبينا هو في نخلة يحترفها قدم مخبر بقدوم الرسول، فنزل ليصعد وصاح به: حدثني. واعجباً، أطلب الشجاعة من حسان، وأسأل عن الهلال ابن أم مكتوم، أتلو سورة يوسف على روبيل، أستملي الفصاحة من باقل، وأنتظر الوفاء من عرقوب، لقد رجعت إذن بخفي حنين، يا من نقده مردود، وعقله محلول، نيتك في الحيرنية لو أنضجتها نيران خوف أو شوق لانتفعت بها. غمض عينيك على الدواء يعمل، وافتحها لرؤية الهدى تبصر، حجر المعصية تطحطح إناء القلب، وضبة التوبة شعاب، يا من عزمه في الإنابة جزر بلا مد، وقفت سفينة نجاتك، ليل كسلك قد أطبق آفاق التردد، وقد طلبت فيه أطيار الهمة أوكار الدعة، فلو قد طلعت شمس العزيمة في نهار اليقظة لانبث عالم النشط في صحراء المجاهدة. يا صبيان التوبة، تزودوا للبادية تأهبوا لحاجر، انعلوا الإبل قبل زرود، ولا تنسوا وقت تناول الزاد جمالكم.
الفصل السابع والأربعون
واعجباً لنفسٍ تدعى إلى الهدى فتأبى، ثم ترى خطأها بعين الهوى صواباً، كم أذهبت زمناً وكم أفنت شباباً، وكم سودت في تبييض أغراضها كتاباً.
لله درّ أقوام تأملوا غيبها وما زالوا حتى رأوا عيبها، نزلوا من الدنياء منزلة الأصياف، أخذوا الزاد وقالوا ما زاد إسراف، وقفوا عند الهموم والمؤمن وقاف، رموا فضول الدنيا من وراء قاف، لو رأيتهم في الدجى، يراعون النجوم، وخيل الفكر قد قطعت حلبات الهموم يشكون جرح الذنوب ويبكون الكلوم، أحرقت أحزانُهم أجسامَهم، وبقيت الرسوم بلغتهم البلغ ورمتك التخم في التخوم، سكروا من مناجاة الكريم، لا من بنات الكروم، أصبحت عليهم آثار الحبيب والطيب نموم، هذه سلع الأسحار من يشتري? من يسوم? أين قلبك الغائب? قل لي لمن تلوم? جسمك في أرض العراق وقلبك في أرض الروم، مهر الطبع ما ريض، أهاب البشرية ما دبغ، في عين البصير عشا، عرائس الموجودات ترفل في حلل مختلفة الصنعة والصبغة والصيغة، تعبر إلى المعتبر في معبر الاعتبار، فهل حظك حظها من النضارة أن تحظى من النظر بحظ.
واعجباً لك لو دخلت بيت ملك لم تزل تتعجب من رقوش نقوشه فارفع بصر التفكر واخفض عين البصيرة، فهل أحسن من هذا الكون? تلمح مخيم السقف كيف مدّ بلا أطناب?، ثم زخرف نقشه برقم النجوم، والهلال دملوج في عضد السماء، فإذا جن الليل كحلت العيون بأثمد النوم، واجتلاها أهل " تَتَجافى " فإذا جلى ركب الدجى، جلا ضوء الشمس عن الأبصار رمد الظلام، أنظر إلى الأرض إذا تأيمت من زوج القطر، ووجدت لفقد إنفاقه مس الجدب، كيف تحد في ثياب " وتَرى الأَرضَ خاشعَةً " طالما لازمت حبس الصبر وسكنت مسكن المسكنة لولا ضجيج أطفال البذر، فإذا قوي فقر القفر امتدت أكف الطلب تستعطي زكاة السحاب، فهبت الجنوب من جناب اللطف، فسحبت ذيل النسيم على صحصح الصحارى، فتحركت جوامد الجلاميد وانتبه وسنان العيدان لقبول تلقيح اللواقيح، فإذا لبس الجو مطرفه الأدكن، أرسل خيالة الفطر شاهرة أسياف البرق وأنذر بالإقدام صوت الرعد، فقام فراش الهواء يرش خيش النسيم، فاستعار السحاب جفون العشاق وأكف الأجواد، فامتلأت الأودية أنهاراً، كلما لمستها كف النسيم حكى سلسالها سلاسل الفضة، فالشمس تسفر وتنتقب، والغمام يرش وينسكب، فانعقد بين الزوجين. عقد حب الحب، فلا يزال السحاب يسقي ذر البذر. بثدي الندى. وكلما احتاج إلى فضل قوت كر الرك، وشط الطش، ودق الودق، فطم إلى أن فطم الطفل، فإذا وقعت شمس الشتاء في الطفل، نشأ أطفال الزرع فارتبع الربيع أوسط بلاد الزمان، فأعار الأرض أثواب الصبا وروح كربها بنسيم الصبا، فانتبهت عيون النور من سنة الكرى، فكم نهضت من الغروس عروس بين يديها الأوراق كالوصائف فصافحت ريحها الخياشيم، ومنظرها الحدق، فكان عين النرجس عين وورقة ورق، فالشقايق تحكي لون الحجل والبهار يصف حال الوجل، والنيلوفر يغفى وينتبه، والأغصان تعتنق وتفترق، وقد ضرب الربيع جل ناره في جلناره، وبثت الأراييح أسرارها إلى النسيم فنم، فاجتمع في عرس التواصل فنون القيان، فعلا كل ذي فن على فنن، فتطارحت