كتاب المدهش لابن الجوزي 35 لسان المعاملة، هل لك في بلوغ عرضك على أن تأجرني، فإن وفيت انقلبت إلى لذاتك مسروراً، واسترجع لك التكليم على طور الجنة، فإن صحبت فرعون الهوى غرقت بعبورك يوم اليم.
الفصل الخامس والثلاثون
يا هذا، إنما خلقت الدنيا لتجوزها لا لتحوزها، ولتعبرها لا لتعمرها، فاقتل هواك المايل إليها، واقبل نصحي لا تعول عليها.
لورقة بن نوفل:
الدنيا مزرعة النوائب ومشرعة المصائب، ومفرقة المجامع ومجرية المدامع. كم سلبت أقواماً أقوى ما كانوا، وبانت أحلى ما كانت أحلاماً فبانوا، ففكر في أهل القصور والممالك، كيف مزقوا بكف المهالك ثم عد بالنظر في حالك، لعله يتجلى القلب الحالك. إن لذات الدنيا لفوارك، وإن موج بلائها لمتدارك، كم حج كعبتها قاصد فقتلته قبل المناسك، كم علا ذروتها مغرور فإذا به تحت السنابك، كم غرت غراً فما استقر، حتى صيد باشك، خلها واطلب خلة ذات سرور وسرر وأرائك، تالله ما طيب العيش إلا هنالك. أخواني ، ما قعودنا وقد سار الركب، ما أرى النية الآنية، يا مسافرين من عزم تزود، يا راحلين بلا رواحل وطنوا على الانقطاع، ليت المحترز نجا فكيف المهمل?، يا أقدام الصبر تحملي فقد بقي القليل، تذكري حلاوة الدعة يهن عليك مر السرى، قد علمت أين المنزل، فاحدلها تسير .
للمهيار:
الجنة ترضى منك بالزهد، والنار تندفع عنك بترك الذنب، والمحبة لا تقع إلا بالروح.
ما سلك الخليل طريقاً أطيب من الفلاة التي دخلها، لما خرج من كفه المنجنيق، زيارة تسعى، فيها أقدام الرضا على أرض الشوق، شابهت ليلة "فزجني في النور، وقال ها أنت وربك".
رآه جبريل وقد ودع بلد العادة، فظن ضعف أقدام المتوكل فعرض عليه زاد "ألك حاجة" فرده بأنفة "أما إليك فلا" قال فسل مولاك، قال: علمه بحالي يغنيني عن سؤالي.
أبدان المحبين عندكم وقلوبهم عند الحبيب، طرق طارق باب أبي يزيد فقال: ها هنا أبو يزيد? فصاح من داخل الدار: أبو يزيد يطلب أبا يزيد فما يجده.
للمهيار:
بلغت بالقوم المحبة إلى استحلاء البلى، فوجدوا في التعذيب عذوبة لعلمهم أنه مراد الحبيب.
ضنى سويد بن مثعبة، على فراشه، فكان يقول: والله ما أحب أن الله نقصني منه قلامة ظفر.
أمر الحجاج بصلب ما هان العابد، فرفع على خشبة وهو يسبح ويهلل ويعقد بيده حتى بلغ تسعاً وعشرين فبقي شهراً بعد موته، ويده على ذلك العقد مضمومة.
مروا على مجذوم قد مزقه الجذام، فقالوا له: لو تداويت، فقال: لو قطعني إرباً إرباً ما ازددت له إلا حباً.
كان الشبلي يقول: أحبك الناس لنعمائك وأنا أحبك لبلائك.
قلبهم الزهد في قفر الفقر على أكف الصبر فقلع أوداج أغراضهم بسكين المسكنة، والبلاء ينادي أتصبرون? والعزم يجيب: لا ضير، سقاهم رحيق القرب فأورثهم حريق الحب فغابوا بالسكر عن روية النفس فعربدوا على رسم الجسم وهاموا في فلوات الوجد يستأنسون بالحمام والوحش.
الفصل السادس والثلاثون
أيها المغتر كم خدعت، ما واصل وصلها محب إلا قطعت، ولا ناولت نوالاً إلا ارتجفت، اختبأت مريرها فلما اعتقلت أسيرها جرعت، متى رأيتها قد توطنت فاعلم أنها قد أزمعت.
إلى متى في طلبها?، إلى كم الاغترار بها?، تدور البلاد منشداً ضالة المنى، وتلك ضالة لا توجد أبداً، فسيقتلك الحرص غريباً ولكن لا في فيافي "فيا طوبى للغرباء".
أيها المتعب نفسه في جمع المال، عقاب الوارث على مرقب الانتظار، أفهمت أم أشرح لك?، العقاب لا تعاني الصيد وإنما تكون على موضع عال، فأي طائر صاد صيداً انقضت عليه فإذا رآها هرب وترك الصيد، ومالك تجمع مالك? ومالك منه إلا ما تخلف، والزمان يشتك للذهاب وأنت للإذهاب تؤلف، المال إذا وصل إلى الكرام عابر سبيل وإكرام عابر السبيل تجهيزه للرحيل، جسم البخيل كله يعرق إلا اليد كفه مكفوفة ما ينفق منها خرزة.
يا فرعوني الكبر تفرح بمال سيسلب منك، فتستعير كلمة "أليس لي" يا نمروذي الجهل، تشد أطناب الحيل على الدنيا في أرجل نسور الأمل ثم ترمي نشاب الأغراض، إن وقف لك غرض فتستغيث الأكوان من يدك "وإن كان مكرهم" من فهم علم التوحيد، تجرد للواحد بقطع العلائق، أما ترى كلمتي الشهادة مجردة عن نقط. إذا أعرضت عن الدنيا أقبلت إليك الآخرة، من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، عقر سليمان الخيل " فسخّرنا لهُ الريحَ"، لما عقدت الخنصر على التوحيد ميزت على باقي الأصابع بالخاتم.
يا أطفال التوبة ما أنكر حنينكم إلى الرضاع، ولكن ذوقوا مطاعم الرجال وقد نسيتم شرب اللبن، إذا تحصن الهوى بقلعة الطبع فانصبوا مجانيق العزائم وقد انهدم السور، أنتم تخرجون لقتل سبع ما أذاكم. ليقال عن أحدكم ما أجلده، فكيف تتركون سبع الهوى وقد أغار على سرح القلوب? إنما تتحف الملوك بالباكورة. فافهموا يا صبيان التوبة إذا أهديتم فالرطب لا الحشف. يا أطيار الشباب، إما عبادان التعبد وإلا استفراخ العلم وإلا فالذبح، تريدون نيل الشهوات وحصول المراتب، والجمع بين الأضداد لا يمكن.
ما زلت أعالج مسمار الهوى. في قلب العاصي، أميل به تارة إلى جانب التخويف، وتارة إلى ناحية التشويق، فلما ضعف الماسك بإزعاجي له، اتسع عليه المجال فجذبته، أنفت لصبي اللعب من بيع جوهر العمر النفيس بصدف الهوى، فشددت عليه في الحجر ليعلم بعد البلوغ "أنِّي لمْ أَخُنْهُ بالغيب".
الفصل السابع والثلاثون