كتاب المدهش لابن الجوزي 32 اجتمع المحبون في مساجد التعبد أول الليل، فرماهم الوجد في آخره على قوارع الطرق.
أرواح أزعجها الحب، وأقلقها الخوف، سبحان من أمسكها باللطف.
مجلسنا بحر، يرده الفيل والعصفور كل أناس مشربهم أطيار صناعتها في الجو بالقلب.
فأين الطروب، سحائب التفهيم قد هطلت بودق البيان، أفتراها أخضرت رياض الأذهان? نحن في روضة طعامنا فيها الخشوع وشرابنا فيها الدموع ونقلنا هذا الكلام المطبوع، نداوي أمراضاً أعجزت بختيشوع، ونرقى الهاوي ونرقى الملسوع، فليته كان كل يوم لا كل أسبوع.
لصردر: وحدي أتكلم، وجدي يتألم، ألا مريد يتعلم? ألا دموع تتسلم? لابن المعلم:
الفصل التاسع والعشرون
أخواني تفكروا في مصارع الذين سبقوا، وتدبروا مصيرهم أين انطلقوا? واعلموا أن القوم انقسموا وافترقوا، قوم منهم سعدوا ومنهم قوم شقوا
أين من كان في سرور وغبطة? أين من بسط اليد في بسيط البسطة? لقد أوقعهم الموت في أصعب خطة، جسروا على المعاصي فانقلبت على الجيم النقطة، بيناهم في الخطأ خطا إليهم صاحب الشرطة، هذا دأب الزمان فإن صفا فغلطة، كم تخون الموت منا أخوانا، وكم قرن في الأجداث أقرانا، كم مترف أبدله الموت ديدانا، وهذا أمر إلينا قد تدانى، كم معد عوداً لعيده? صارت ثيابه أكفانا، وما شاهدنا مصرعها وما كفانا، كم مسرور بقصره عوض من قبره أعطانا، افتراناً، هذا الأمن، من أعطانا?
من سعى إلى شهواته مستعجلاً تعثر بحسك الأسف، تلمح العواقب قبل الفعل أمان من الندم، قد عرفتم عقابيل قابيل وعلمتم حسن سرابيل هابيل:
الهوى مطمورة ضيقة في حبس وعر ومذ خلق الهوى خلق الهوان، لا يتصرف الهوى إلا بربع قلب فارغ من العلم، الجهل خندق يحول بين الطالب والمطلوب والعلم يدل على القنطرة، كتابة العلم في ليل الجهل تفتقر إلى مصباح فطنة ودهن الذهن غال، ما قدر لص قط على فطن، ومتى نام حارس الفكر انتبه لص الهوى، من ثبت قلبه في حرب الشهوات لم يتزلزل قدمه، أول ما ينهزم من المهزوم عقله، ما دمتَ في حرب العدو فلا تبال بالجراح، فإنه قد يصاب الشجاع، إنما المهادنة دليل الذل، تأثيرات الذنوب على مقاديرها، وقعت غلطة من يوسف فقُدَّ القميص وقويت زلة آدم، فخرج عرياناً من الثياب، أين عزيمة توبة ماعز? لا عزيمة توبة، أين هم أويس لا غم قيس، ما لم يكن لك محرِّك من باطنك فالخلق تضرب في حديد بارد. لصردر: ويحك، من زم جوارحه ولازم الباب كان على رجاء الوصول، فكيف بمن لازم ولا لازم، طوبى للزهاد لقد مروا في المطلق، من يرافقني إلى ديار القوم? ما أجوز على البلدان إنما أمضى على السماوة، وهذه خيام ليلى فأين ابن الملوح: كان سري يدافع أول الليل فإذا جن أخذ في البكاء إلى الفجر:
ذلوا له ليرضى، فإذا رأيتهم قلت مرضى.
لصردر: يأنسون في الدجى بالظلام، ويطربون بنوح الحمام، مرضى الأبدان من طول الغرام، أصحاء القلوب مع السقام، إذا ذكرت حبيبهم رأيت المستهام قد هام.
للمهيار: قال الشبلي: لقيت جارية حبشية، فقلت: من أين? فقالت: من عند الحبيب، قلت: وإلى أين? قالت: إلى الحبيب، قلت: ما الذي تريدين من الحبيب? قالت: الحبيب. قلت: فكم تذكرين الحبيب? فقالت: ما يسكن لساني عن ذكراه حتى ألقاه:
رأى معروف في المنام كأنه تحت العرش، فقال الله عز وجل: ملائكتي من هذا? فقالوا: أنت أعلم، هذا معروف قد سكن من حبك، فلا يفيق إلا بلقائك:
الفصل الثلاثون أخواني البدار البدار، والجد الجد، فالخصم معد، والقصم مجد:
يا من دعى إلى نفعه نبا ونشز، يا جامعاً لغيره ما جمع وكنز، يا متثبطاً في الخير فإذا لاح الشر جمز، كأنك بالألم وقد ألم، فنكى ونكز، وكد التبار الروح بالتباريح، واشتد العلز، وأخذ النفس النفس فاضطرها وحفز، ودارت في فلك الفوت فإذا ملك الموت قد برز، فسماك بالمقبور وبالمثبور قد نبز، فتأهب فالسعيد منا من تأهب للخير وانتهز، لقد علت سنك وانتهيت. وما انتبهت ولا انتهيت. أتعبت ألف رايض ولم تؤد الفرايض. كم ضيعت عمراً طويلاً حملت فيه وزراً ثقيلاً. كم نصب لك الموت دليلاً إذ ساق العزيز ذليلاً، لقد حمل إلى القبور جيلاً جيلاً، ونادى في الباقين رحيلاً رحيلا، لكن الهوى أعاد الطرف كليلا، وما كان الذي رأيت قليلا، يا مرضاً عجيباً كم أتعبت طبيبا، لقد تنوع ضروبا فأخذ كل عضو نصيباً، إلام يبقى الغصن رطيباً? من يرد برد الصبي قشيباً، لقد أمسى الموت قريباً، وستبصر يوماً غريباً.
عجباً لك، لا الدهر يعظك، ولا الحوادث تنذرك، والساعات تعد عليك، والأنفاس تعد منك، وأحب أمريك إليك، أعودهما بالضرر عليك.
يا هذا، من جلا بصيرته من قذى الهوى جلّى على بصره عرائس الهدى. الصور تزاحم المعاني فمن حلها حلى بمغنى المعنى فتعلم حلها بالتدريج. كل ذرة من الكون تخبر بلغة بليغة عن حكمة الفاطر، غير أنه لا يفهم نطق الجوامد إلا العقل نظر الأبصار اليوم إلى الصانع بواسطة المصنوع تدريج إلى رفع الوسايط غداً، يا محبوساً في سجن غفلته أخرج من ديار أدبارك واعبر في معبر اعتبارك، قف على بعض بقاع قاع ترى كيف نمت خضرة حضرته بأسرار الخالق إذ تمت. تلمح أصناف النبات في ثياب الثبات قد برزت في عيد الربيع تميس طرباً بالري، تأمل مختلف الألوان في