كتاب المدهش لابن الجوزي 30 يا هذا حفر النهر إليك وإجراء الماء ليس عليك، احفر ساقية "فاذكروني" إلى جنب بحر "أذكركم" فإذا بالغ فيها معول الكد، فاضت عليك مياه البحر، "فبي يسمع وبي يبصر" الق بذر الفكر في أرض الخلوة وسق إلى ساقية من ماء الفكر، لعلها تنبت لك شجرة "أنا جليس من ذكرني".
للشريف الرضي:
هبت رياح الخوف فقلقلت قلوب الخائفين فلم تترك ثمرة دمع في فنن جفن، إذا نزل آب في القلب، سكن أذار في العين.
كانت مع هشام بن حسان جارية في الدار فكانت تقول: أي ذنب عمل هذا? من قتل هذا? فتراه الليل كله يبكي.
كان فتح الموصلي يبكي الدموع ثم يبكي الدم، فقيل له: على ماذا بكيت الدم? فقال: خوفاً على الدموع أن تكون ما صحت لي.
الفصل الخامس والعشرون
يا من يعظه الدهر ولا يقبل، وينذره القهر بمن يرحل، ويضم العيب إلى الشيب وبئس ما يفعل، كن كيف شئت فإنما تجازى بما تعمل:
يا جايراً، كلما قيل أقسط قسط، يا نازلاً، فسطاط الهوى، على شاطئ الشطط، يا ممهلاً لا مهملاً ما عند الموت غلط، كم سلب وضيعاً وشريفاً سلباً عنيفاً وخبط، أما مضغ الأرواح? فلما طال المضغ استرط، أما يكفي نذيرهم? بلى قد خوف الفرط، تالله ما يبالي حمام الحمام أي حب لقط? أما خط الشيب خط النهي عن الخطآء لما وخط، أما آذن الشباب بالذهاب فماذا بعد الشمط?
يا مدعواً إلى نجاته وهو يتوانى، ما هذا الفتور? والرحيل قد تدانى، يا مقبلاً على هفواته لا يألو بهتاناً، كأنك بالدمع يجري عند الموت تهتاناً، وشغل التلف قد أوقد من شعل الأسف نيرانا، وأنت تبكي تفريطك حتى لقد أقرحت أجفانا، والعمل الصالح ينادي من كان أجفانا، احذر زلل قدمك، وخف حلول ندمك، واغتنم وجودك قبل عدمك، واقبل نصحي ولا تخاطر بدمك.
خاصم نفسك عند حاكم عقلك لا عند قاضي هواك، فحاكم العقل يدين وقاضي الهوى يجور، كان أحد السلف إذا قهر نفسه بترك شهوة أقبل يهتز اهتزاز الرامي إذا قرطس، لما عرف القوم قدر الحياة، أماتوا فيها الهوى فعاشوا، انتبهوا بأكف الجد من الزمن ما نثره زمن البطالة.
هان عليهم طول الطريق لعلمهم أين المقصد، وحلت لهم مرارات البلا حباً لعواقب السلامة، فيا بشراهم يوم "هذا يومكم".
يا ربوع الأحباب أين سكانك? يا مواطن الألباب أين قطانك? يا جواهر الآداب أين خزانك? للمهيار:
يا هذا تنزه في أخبار المحبين إن لم تكن منهم، إن أهل الكوفة يخرجون للتفرج على الحاج، اقعد على جانب وادي السحر لعل إبل القوم تمر بك.
وآسف المتقاعد عنهم، واحسرة البعيد منهم
وا حاجتنا إلى رؤية القوم، ويا شدة إيثارهم البعد عنا، إن رأينا شخصاً فأعلمتنا الفراسة أنه منهم كانت همته الهرب منا، وما ذاك إلا للتباين بين أفعالنا وأعمالهم فلنبك على هذه الحال.
كان بعض الصالحين يتستر بإظهار الجنون فتبعه مريد فقال له: والله ما أبرح حتى تكلمني بشيء ينفعني، فإني قد عرفت تسترك، فسجد وجعل يقول في سجوده: اللهم سترك، فمات.
?الفصل السادس والعشرون
يا مخدوعاً قد فتن، يا مغروراً قد غبن، من لك إذا سوى عليك اللبن? في بيت قط ما سكن، سلب الرفيق نذير والعاقل فطن.
إياك والدنيا فإن حب الدنيا مبتوت، واقنع منها باليسير فما يعز القوت، يا قوت الندم يغني عن الياقوت، احذر منها فإنها أسحر من هاروت وماروت، ليس للماء في قبضة ممسك ثبوت "وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت" أين من جمع المال وملأ التخوت، تساوى تحت اللحود السادات والتحوت، ما نفعه إن جال في البأس جالوت ولا رد عنه إن طال القوم طالوت، ولا منع أصحابه حلول التابوت، لقد أخرج الموت من قعر اليم الحوت، قل للذين تديروا تدبروا، أين البيوت? جوزوا على الذين جوزوا، فقد وعظ الخفوت، كم مسئول عن عذره في قبره مبهوت، لقد أنطق الوعظ الصخور الصموت، أما يكفي زجراً أنك تموت، بادر عمراً في كل يوم يفوت، قل أنا تائب إلى كم سكوت? قد تعودت منك النفس في المجلس، النطق بالتوبة فهي تسخو بالكلام لعلمها أنه على غير أصل، ولو تيقنت صدق عزمك لتوقفت عن القول، هذا العصفور إذا كان على حائط فصحت به لم يبرح فإذا أهويت إلى الأرض كأنك تناول حجراً يلمح يدك فارغة فلم ينفر، فإذا وضعت يدك على حجر رأى الجد ففر، يا هذا، قولك أنا تائب من غير عزم، نفخ في غير ضرم، بيض التراب لا يخرج منه فرخ.
أخواني، العمر أنفاس تسير بل تطير، الأمل منام لا ترى فيه إلا الأحلام، هذا سيف الموت قد دنا، فإن ضرب قدنا، هذا الرحيل ولا زاد عندنا، انتبهوا من رقاد الغفلة، تيقظوا من نوم العطلة، عرجوا عن طريق البطالة، ابعدوا عن ديار الوحشة، الفترة حيض الطباع، ووقوع العزيمة، رؤية النقا فحينئذٍ يتوجه الخطاب بالتوجه إلى محراب الجد، أول منازل الآخرة القبر، فمن مات فقد حط رحل السفر، وسائر الورى سائر، من كان في سجن التقى فالموت يطلقه، ومن كان هائماً في بوادي الهوى فالموت له حبس يوثقه، موت المتعبدين عتق لهم من استرقاق الكد ورفق بهم من تعب المجاهدة، وموت العصاة سباء يرقون به لطول العذاب، من كان واثقاً بالسلامة من جناية فرح يفك باب السجن، لما توعد فرعون السحرة بالصلب أنساهم أمل لقاء الحبيب مرارة الوعيد "إنّا إلى ربنا منقلبون" يا فرعون غاية ما تفعل أن تحرق الجسم، والركب قد سرى "لا ضير" من لاحت له منى، نسي تعب المدرج.
للمهيار:
لا بد للمحبوب من اختبار المحب "ولنبلونكم" أسلم أبو جندل بن سهيل فقيده أبوه، فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديبية خرج أبو جندل يرسف في قيده، فدخل في الصحابة، فقال سهيل: هذا أول من أقاضيك عليه، فاستغاث أبو جندل: يا معشر المسلمين، أأرد إلى المشركين، فيفتنوني عن ديني، فقال الرسول: لا بد من الوفاء فرد إليهم، فقدمه يسعى نحوهم وقلبه يجهز جيوش الحيل في الخلاص.
للمهيار:
لما أسلم مصعب بن عمير حبسه أهله، فأفلت إلى الحبشة، ثم قدم مكة، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسلت إليه أمه، يا عاق أتدخل بلداً أنا فيه ولا تبدأ بي? فقال: ما كنت لأبدأ بأحد قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرادت حبسه، فقال: والله لئن حبستني لأحرصن على قتل من يتعرض لي، فتركته.
جمع حبس التعذيب بين بلال وعمار، مصادرين على بذل الدين فزوروا نطق عمار على خط قلبه، فلم يغرفوا التزوير، وأصر بلال على دعوى الإفلاس فسلموه إلى صبيانهم في حديدة يصهرونه في حر مكة، ويضعون على صدره وقت الرمضاء صخرة ولسان محبته يقول: