كتاب المدهش لابن الجوزي -10- إبراهيم مُصلَّى" فلما أمرا ببناء البيت حار من لا يعلم مراد الآمر، فإذا سحابة تسحب ذيل الدليل، قد قدَّها المهندس القدري على قدر البيت، فوقفت فنادت يا إبراهيم: علِّم على ظلي، فلما علَّم كما علِم، هبت فذهبت فسُرَّ بما فُسِّر له من مشكل الشكل، فذلك سرُّ "وإذا بوَّأْنا" فجعلا مكان استراحة البناء المعنى "ربنا تقبَّل منا" فلما فرغا، فغرا فم السؤال، يرتشفان ضرع الضراعة "وأرنا مناسكنا" فلما شرفت الكعبة بإضافة "وطهِّرا بيتي" قصدها فوج الفيل، فقيل مرادهم، لما باتوا على ما بيتوا، أقبل الطير الذي رمى كالغمام، فكانت قطراته للحصاد، لا للبذر، فأصبح لزرع الأجساد كالمنجل الهاشم، ليكون معجزاً لظهور نبي بني هاشم، فأمسوا في بيدر الدِّيّاس "كعصفٍ مأكول".
الفصل الثالث
في قصة نوح عليه السلام
لما عم أهل الأرض العمى عما خلقوا له، بعث نوح بجلاء أبصار البصائر، فمكث يداويهم "ألف سنة إلا خمسين عاماً" فكلهم أبصر ولكن عن المحجة تعالى، فلاح لللاحي عدم فلاحهم، فولاهم الصلا يأساً من صلاحهم. وبعث شكاية الأذى، في مسطور "إنهم عصوني" فأذن مؤذن الطرد، على باب دار إهدار دمائهم "إنه لن يؤمن من قومك إلاّ من قد آمن" فقام نوح في محراب "لا تذر" فأتته رسالة "أن اصنع" ونادى بريد الإعلام بالغضب "ولا تخاطبني" فلما أن هال كئيب الإمهال، وانقطع سلك التأخير. غربت شمس الانتظار، فادلهمت عقاب العقاب فلما انسدلت الظلمة، وفات النور "فار التنور" فقيل يا نوح: قد حان حين الحين، فاحمل "فيها من كل زوجين اثنين"، فتخلف خلف نوح خلف من ولده، فمد يد الحنو ليأخذ بيده "يا بني اركب معنا" فأجاب عن ضمير خايض في مساء المساوي "سآوي" فرد عليه لسان الوعيد "لا عاصم" فلما انتقم من العصاة بما يكفي، كفت كف النجاة كفة الأرض بقسر "ابلعي" وقلع جذع جزع السماء في وكف دمعها بظفر "أقلعي" ونوديت نجاة الجودي جودي، بإنجاء غرقى السير، وزود الهالكون في سفر الطرد زاد "وقيل بُعداً".
الفصل الرابع
في قصة عاد
لما تجبر قوم عاد في ظل ظلل ضلالهم حين أملى الأمل، وطول البقاء وزوى ذكر زوالهم، ومروا في مشارع عذاب الملاهي، ناسين من عذابها، رافلين في حلل الغفلة بالأمنية عن المنية وآدابها، أقبل هود يهديهم، ويناديهم في ناديهم "اعبدوا الله" فبرزوا في عتو "من أشدُّ منّا قوة" فسحب سحاب العذاب، ذيل الأدبار، بإقباله إلى قبالتهم، فظنوه لما اعترض عارض مطر، فتهادوا تباشير البشارة، بتهادي بشارة "هذا عارض ممطرنا" فصاح بلبل البلبال فبلبل "بل هو ما استعجلتم به" فكان كلما دنا وترامى، ترى ما كان "كأن لم يكن" فحنظلت شجرات مشاجرتهم هوداً، فجنى من جنى، من جنا ما جنى في مغنى "فما أغنى عنهم سمعهم" فراحت ريح الدبور، لكي تسم الأدبار بكي الإدبار، فعجوا منها عجيج الأدبر، فلم تزل تكوي تكوينهم، بميسم العدم، وتلوي تلوينهم إلى حياض دم الندم، وتكفأ عليهم الرمال، فتكفي تكفينهم، وتبرزهم إلى البراز، عن صون حصون، كن يقيناً يقينهم فإذا أصبحت أخذت تنزع في قوس "تنزع الناس" وإذا أمست، أوقعت عريضهم في عرض "كأنهم أعجاز نخل" فما برحت بارحهم عن براحهم، حتى برّحت بهم، ولا أقلعت حتى قلعت قلوع قلاعهم، فدامت عليهم أفة وداء، لا تقبل فداء "سبع ليال وثمانية أيام حسوماً" فحسوا ما آذاقهم من سوء ما حسوا ما، ونسفوا في قفر "ألا بعداً" إلى يم "واتبعوا" فلو عبرتَ في معبر الاعتبار، لترى ما آل إليه مآلهم، لرأيت التوى، كيف التوى عليهم، وكف النوى كيف نوى الدنو إليهم، فانظر إلى عواقب الخلاف فإنه شاف كاف.
الفصل الخامس
في قصة ثمود
لما أعرضت ثمود عن كل فعل صالح، بعث إليهم للإصلاح، صالح، فتعنت عليه ناقة أهوائهم بطلب ناقة، فخرجت من صخرة صماء تقبقب ثم فصل عنها فصيلٌ يرغو، فأرتعت حول نهي نهيهم عنها في حمى حماية "ولا تمسوها" فاحتاجت إلى الماء، وهو قليل عندهم، فقال حاكم الوحي "لها شِرْب" فكانت يوم وردها، تقضي دين الماء، بماء درها، فاجتمعوا في حلة الحيلة، على شاطئ غدير الغدر، فدار قدار حول عطن "فتعاطى" فصاب عليهم صيّب صاب صاع صاعقة العذاب الهون، فحين دنا وديدن، دمغهم دمار فدمدم، فأصبحت المنازل، لهول ذلك النازل "كأن لم تغن بالأمس".
الفصل السادس
في قصة الخليل عليه السلام
كان الكهنة قد حذرت نمرود وجود محارب غالب، ففرق بين الرجال والنساء، فحمل به على رغم أنف اجتهاده، فلما خاض المخاض في خضم أم إبراهيم وجعلت بين خيف الخوف وحيز التحيز تهيم، فوضعته في نهر قد يبس، وسترته بالحلفاء ليلتبس، وكانت تختلف لرضاعه، وقد سبقها رضاع "ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل" فلما بلغ سبع سنين، رأى قومه في هزل "وجدنا آباءنا" فجادلهم فجدّلهم فجدلهم وأبرز نور الهدى في حجة "ربي الذي يحيي ويميت" فقابله نمرود، بسهى السهو في ظلام "أنا أحيي" فألقاه كاللقا، على عجز العجز، بآفات "فأت بها، فبهت" ثم دخل دار الفراغ "فراغ عليهم" فجردوه من بُرد بَرد العدل، إلى حر "حرِّقوه" فبنوا لسفح دمه بنياناً إلى سفح جبل، فاحتطبوا له على عجل العجل، فوضعوه في كفة المنجنيق، فاعترضه جبريل، في عرض الطريق فناداه وهو يهوي في ذلك الفلا: ألك حاجة? قال: أما إليك فلا، فسبق بريد الوحي إلى النار، بلسان التفهيم "كوني برداً وسلاماً على إبراهيم".
الفصل السابع
في قصة الذبيح عليه السلام
لما ابتلي الخليل بالنمرود فسلم، وبالنار فسلم، امتد ساعد البلاء إلى الولد المساعد، فظهرت عند المشاورة نجابة "افعل ما تؤمر" وآب يوصي الأب: اشدد باطي ليمتنع ظاهري من التزلزل، كما سكن قلبي مسكن السكون، واكفف ثيابك عن دمي لئلا يصبغها عندمي فتحزن لرؤيته أمي، واقرأ السلام عليها مني، فقال: نعم العون أنت يا بني ثم أمر السكين على مريئي المرء فما مرت، غير أن حسرات الفراق للعيش أمرت، فطعن بها في الحلق مرات، فنبت، لكن حب حب الرضا في حبة القلب نبت، يا إبراهيم من عادة السكين أن تقطع، ومن عادة الصبي أن يجزع، فلما نسخ الذبيح نسخة الصبر، ومحا سطور الجزع، قلبنا عادة الحديد، فما مر ولا قطع، وليس المراد من الابتلاء أن نعذب، ولكن نبتلي لنهذب.
أين المعتبرون بقصتهما في غصتهما، لقد حصحص الأجر في حصتهما، لما جعلا الطاعة إلى الرضا سُلّماً، سل ما يؤذي فسلما، وكلما كلما حاجب كلم كل ما به تذبحان، فصد ما به صدما، بينا هما على تل "وتلَّه" جاء بشير "قد صدَّقتَ الرؤيا" فارتد أعمى الحزن بصيراً بقميص "وفديناه". ليس العجيب أمر الخليل بذبح ولده، وإنما العجب مباشرة الذبح بيده، ولولا استغراق حب الأمر لما هان مثل هذا المأمور.
الفصل الثامن
في قصة ذي القرنينقطع ذي القرنين الأرض وأقطعها فمر سالكاً مسلكاً ما فت سبسبه فتى "فأتْبع سبباً" فشمر مشمراً ما تلفت، حتى لفت شملة جمع شمله بالشمس في عين حمئه، فلما أفرغ غرب الغرب على غارب الغربة مشى نحو المشارق، ولم يزل يحوز الكنوز، ويجوز إلى قتل من يجوز، إلى أن طلعت طلايعه الطلعة على مطلع الشمس، فأبرز نير عدله المشرق في المَشرِق، ثم رأى باقي عرضه في دمه مقدار مقدرته كالدين، فسلك بين السدين، فلما حشى حشا الجبلين بالزبر، ولج المفسدون قسر قصراهم، على مضض "فما استطاعوا" عجباً له كم اقتنى من أصقع وأقنف، وكم أسعف بأغشى وأسعف