الطفولة المهربة
ضحكاتها تملأ المراعي الكبيرة ,تجري وراء الفراشات الملونة بخفة طفولية تلقائية ,تتمايل مع السنابل الخضراء التي يداعبها نسيم الربيع العليل,أحست و كأنها جزأ من هذه الأرض ,كأنها شجرة صفصاف أخذت تضرب جذورها في الأرض عميقا,تابعت بنظراتها مياه السواقي المنسابة تتسمع خريرها ,اقتربت منها فانحنت على ركبتيها و أدخلت يدها في مياه الساقية و أخرجت منها قواقع حلزونية بألوان بديعة ثم تابعت جريها من جديد وراء الفراشات البديعة بين السنابل و الخضار اليانعة, هناك تمضي وقتها في اللعب فهي لا تزال صغيرة لا تستطيع القيام بأعمال البيت بعد, يلمحها جلول ابن جارهم فيرمي بالفأس بعيدا ليجريا معا وراء اللقالق البيضاء و ضحكتهما تزيد المكان بهجة و رونقا, و براءتهما الطفولية تشعر المرء بدفء الحقول. و في المساء دخلت كعادتها إلى البيت متعبة منهكة فوجدت أباها متوتر الملامح كئيب القسمات فربما أزعجته قلة الأمطار و لن يكون الموسم جوادا كغيره من المواسم , قدم لها كأسا من الشاي الساخن عبته عن آخره و بعد دقائق معدودة زاد تعبها و ثقلت عيناها فاستلقت كعادتها عند أول فراش ممدود فاقدة وعيها كلية. .
و في الصباح الباكر وجدت نفسها على سرير في مطبخ واسع و أنيق و قد تناهى إلى سمعها أصوات غريبة لم تألف سماعها, نادت على أمها فلم تجبها, نادت على أبيها فلم يجبها, فظنت نفسها لا زالت تعيش كابوسا في منامها ثم أطلقت جماح صرخاتها صائحة أين أنا؟ أين أمي؟ أين أبي؟أين أصوات الغنم و زقزقة العصافير؟ أين السنابل المتمايلة و أين اللقالق المرحة؟ أين رائحة التربة الخصبة؟ فامتدت يد كبيرة إلى خذها الصغير فصفعته بعنف شديد فأشارت بأصابعها الظالمة إلى كومة من الصحون المتسخة,لم تستطع الفتاة فهم ما يحدث لها بالضبط فقد تغيرت الدنيا من حولها بين عشية و ضحاها , فانطلقت باكية إلى الصحون و هي ترتعد فرقا من الشقراء الغاضبة طول النهار,فمر يومها كله جريا بين المطبخ و غرفة سيدتها و صاحب البقالة, تغير الجو من حولها فشعرت بغربة شديدة أحست و كأنها وسط سجن مرعب يكاد يخنق أنفاسها التي ألفت استنشاق عبق الزهور, حولت نظرها إلى ذلك العصفور الأصفر الذي يشدو بألحان شجية يبكي ماضيه التليد فقد أضحى يمتع ولا يستمتع أحست الفتاة بما يعتمل دواخله ففتحت سجنه برفق شديد و حملته بين أناملها بلطف و سلمته للفضاء الفسيح قائلة طر أيها العصفور في السماء و علي مستنشقا رحابة الفضاء و غرد قصتي بين السواقي تبكيني في أدغالها الظباء زهرة سلت من حقل لتتحول إلى عطر تزينت به النساء.لم تستطع إتمام خاطرتها إذ أحست باختناق مشاعرها و ازدادت غربتها فأحست بحرارة مفرطة تسري في جسدها فلم تجد من تشتكي إليه فارتمت على سريرها الموجود بين الفرن و الثلاجة تتذكر قريتها الوديعة و يتناهى إلى سمعها ضحكات جلول البديعة و العرق بدأ يتصبب منها بشدة و هي تتوجع بصوت خافت خوفا من سيدتها القاسية. أغمضت عينيها و استسلمت لنوم عميق بعدما بلغ منها الإرهاق مبلغه, و في الصباح الباكر استيقظت السيدة و لم تسمع صوت الصحون فاتجهت نحو المطبخ متعجرفة لتجد الفتاة جثة هامدة و قد ارتسمت على وجهها مسحة من الحزن العميق