فرّ على الدوام من عدسات الكاميرا واستجوابات الصحافيين، لدرجة أن اسمه نادرا ما تواجد في صحيفة مغربية حتى وهو من بين المؤسسين للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، النقابة الوطنية للتعليم. الرجل الذي رافق مجموعة من كبار الشخصيات المغربية، وكان بمثابة علبة أسرار الراحلين الفقيه البصري ومحمد عابد الجابري، قبِل أخيرا أن يدلي بشهادته على عدة أحداث مهمة عايشها وكان شاهدا عليها، كي يساهم في إنارة بعض الدروب المظلمة من التاريخ المغربي الحديث، وبالضبط تلك الفترة الحرجة التي استمرت من سنوات الاستقلال إلى تجربة التناوب التوافقي.
عبد القادر الحضري، الأستاذ الجامعي المتقاعد، الذي قرر أخيرا الانزواء في منزله بالحي الحسني الدار البيضاء عوض أن يبقى فاعلا في حزبٍ كثُرت ضده الانتقادات، يتحدث في هذا الحوار الحصري الذي تنشره هسبريس على حلقات، عن الأسباب الذي جعلت الحسن الثاني يسقط حكومة عبد الله إبراهيم، وكيف "خان" الاتحاد المغربي للشغل ثقة المنضوين تحته، عارجا على الخلافات الكبيرة التي وقعت بين قادة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، ثم على اغتيال المهدي بنبركة، فظروف تشكيل الاتحاد الاشتراكي، وعدة أحداث مهمة أخرى في إطار ما يُعرف بسنوات الرصاص.
كيف عشت الأحداث الكبرى التي وقعت سنة 1955 والتي أفضت إلى استقلال المغرب؟
لم يكن سني يتجاوز في ذلك العام سوى 15 سنة، ولكنني كنت منخرطا داخل حزب الشورى والاستقلال، وكنت من الشباب المتحمس لأطروحات جمال عبد الناصر وعبد الكريم الخطابي بضرورة تحرير كل الأقطار العربية والإسلامية من أيدي الاستعمار. فبعد اندلاع الحركات الثورية في غالبية البلدان المستعمَرة، وجدت فرنسا نفسها مجبرة على التفكير جديا في مسألة الاستقلال، وأتذكر هنا أن عبد الرحيم بوعبيد التقى رئيس الحكومة الفرنسية آنذاك وطلب منه إيجاد طريقة سلمية للخروج من المغرب كي لا يقع حمام دم شبيه بذلك الذي تعرفه أقطار قريبة، وقد استجابت فرنسا حينئذ بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين ومن بينهم المهدي بنبركة ومحمد الدويري، وببداية المفاوضات.
عندما بدأت محادثات إكس ليبان الشهيرة، لم يكن لا علال الفاسي ولا عبد الكريم الخطابي راضيان عنها، فقد انتقداها بشكل كبير، وقد سافر بنبركة فيما بعد إلى القاهرة حيث التقى بالخطابي وأفهمه أن لا أحد من الوطنيين كان راضيا على الطريقة التي مرت بها المحادثات، وأنه شخصيا ندم على تلك الصيغة من المحادثات، وهو ما عبر عنه المهدي في كثير من كتاباته فيما بعد.
كيف مرت تلك المحادثات؟
من بين وفد مغربي مكوّن من 37 شخصا، لم تقبل فرنسا بوجود سوى ثلاثة رجال من الحركة الوطنية، هم بنبركة، الدويري وبوعبيد، بينما تشكلت البقية من مجموعة من المحافظين والإقطاعيين ورجال فرنسا بالمغرب، وعندما علم علال الفاسي بأن المحادثات ستبدأ لا محالة، طلب من رجال الحركة الوطنية التشديد على عودة محمد الخامس من المنفى، وأن لا يقبلوا أبدا باستقلال دون ملك البلاد، فالملكية بالنسبة للفاسي، كانت تعني سيادة المغرب والرمز الذي يوّحد المغاربة.
وقد قبلت فرنسا بهذا الشرط، لكنها ضمنت من خلال المحادثات تواجدها بالمغرب حتى بعد الاستقلال، لذلك فقد اشترطت أن تكون أول حكومة بعد الاستقلال ائتلافية، وأن يوجد مبارك البكاي على رأسها، لكونه واحدا من رجالاتها الساهرين على مصالحها بالمغرب.
وقد وصف بنبركة فيما بعد هذه الطريقة بالاستقلال بـ"الاستعمار الجديد"، لا سيما وأن المحادثات مكّنت فرنسا من التواجد في عدة قطاعات حساسة كالأمن، الجيش، المخابرات، الإدارات العمومية، زيادة على أن حزب فرنسا، تقوى بشكل واضح بالمغرب بعد الاستقلال إلى درجة أنه استطاع التأثير على ولي العهد، الحسن الثاني، وصار واحدا من المدافعين عنه رفقة صديقه الحميم محمد رضا اكديرة.
لكن، هناك بعض الاتهامات التي تطال حزب الاستقلال بكونه شارك في هذا الاستقلال "الناقص"؟
حزب الاستقلال كان مكوّنا في تلك الفترة من طبقتين: طبقة بورجوازية محافظة ضمت بعض الوطنيين ولكن كذلك الكثير من المنتفعين ممن رأوا في الاستقلال فرصة ذهبية لبلوغ مآرب اقتصادية، وطبقة تقدمية تجسدت في القادمين من المقاومة كالفقيه البصري أو المناضلين الذين اعتبروا أن المغرب لم يستقل بعد ومنهم بنبركة، بوعبيد، اليوسفي.
وأتذكر جيدا أنه خلال شتنبر 1958، جلست اللجنتان السياسية والتنفيذية داخل حزب الاستقلال من أجل تشكيل لجنة تحضيرية لمؤتمر 1959، وقد ضغطت الطبقة المحافظة بقوتها من أجل وضع رجالاتها في اللجنة التحضرية، وهو ما وقع بالضبط حيث تمت تزكية عقلية "الشيخ والمريد" داخل الحزب بأن تواجد قرابة 100 عضو في أيدي الطبقة المحافظة تزايد بها على من تريد، وتعطيها للمرشح الذي تريد.
فعدد من قادة الحزب في ذلك الوقت، لم يكونوا مؤمنين بالديمقراطية، بقدر ما كان التوافق هدفهم بغية الاستمرار في علاقة قوية مع القصر الذي بدأت خلافاته تظهر مع الطبقة التقدمية داخل الحزب. هكذا اشتد النزاع داخل "الاستقلال" بين الطبقة المحافظة والطبقة التقدمية، وقد استطاعت هذه الأخيرة إفشال ذلك المؤتمر بمباركة من بعض أعضاء حكومة عبد الله إبراهيم، وهو ما كلّفهم المزيد من الشد والجذب مع القصر، خاصة مع ولي للعهد ضغط بقوة لأجل إسقاط الحكومة.
إذن فهذا النزاع هو الذي أفضى إلى تشكيل الاتحاد الوطني للقوات الشعبية؟
بالضبط، فمنذ ماي 1959، بدأ العمل على تأسيس حزب جديد لا يضم فقط المعترضين داخل "الاستقلال"، ولكن كذلك كل من لم يجد ذاته في أحزاب أخرى كالشورى والاستقلال. وللإشارة، فبنبركة لم يكن يريد الانفصال عن "الاستقلال" وكل ما كان يريده هو تصحيح أوضاع الحزب، إلا أن النقابيين دفعوا في اتجاه حزب جديد. هكذا في شتنبر 1959، تم تأسيس الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، لتبدأ مرحلة خطيرة في تاريخ المغرب، لا سيما مع رغبة هذا الحزب، الوصول إلى نوع من الملكية البرلمانية، وهو اعتبره الحسن الثاني خطرا على طريقة اشتغال المؤسسة الملكية.
منقول