أدخل عبر سرداب ضيق مظلم خنق أنفاسه, حتى أنه يكاد يتنفس بصعوبة بالغة,تزكم أنفه رائحة الطين الندي المنبعث من الحيطان المحيطة به, مايوحي بكون المكان موغل في ردهات الأزمنة الغابرة,لم يكن يشعر بأي شيء, خلا شعوره بثقل الماضي و قلبه الذي تحول إلى قطعة ثلج جامدة لا يسمع له خفقانا,ظل يمشي و يمشي بخطى ثابثة كأنه يعدها و عيناه متصلبتين نحو المجهول تدفعه قوة خفية نحو الظلام و لا شيء سوى الظلام,هذا الظلام الذي تتبدد على صفحته كل ما حاول اطلاق عنان خياله لاستنكاه ما يخفي وراءه من خطوب, فجأة التقطت أذناه كلمة "أي"تلفت يمينا نحو مصدر الصوت فإذا به بهيكل عظمي يحمل شيئا يشبه القنديل و ماهو بذاك,كلمه بصوت رقيق مزدوج النبرة قائلا "ألا تنتبه يا هذا المتعجرف كدت تنثر عظامي في هذا الظلام الدامس الذي لا يعثر فيه حتى على جثة عملاق!! ألم تتعود بعد على الظلام رغم أنك قطعت مسافات طوال في هذه الغياهب المظلمة؟ عجيب حالة اسثنائية أنت, لم يسبق معي أن مر بي مخلوق بمثلك غرابة ملامحك!!"
لم يشعر الغريب بالوجل من مظهر الهيكل المقزز بل اقترب منه و هو يغلق عينيه و يفتحهما من وهج قنديله الباهت يسأله قائلا:"بالله عليك أخبرني من تكون؟ و هل أنا هو ذلك الذي اعرف أم تحولت إلى شيء آخر؟"أجابه الهيكل مقهقها من السخرية:" أ إلى هذا الحد أنت أعمى؟ فكما ترى أنا مومياء محنطة خلعت ملابسي للتو لذلك بدت لك عظامي بارزة أنا هنا قرب الوادي المقدس لأخذ حمامي السنوي و يسمى وادي الزيوت الحافظة, فانظر ماذا فعلت بتهورك لقد أصبتني في عظمة كاحلي الأيسر".
شجع جواب المومياء الغريب على طرح المزيد من الأسئلة فاستأنس به هكذا سرعة,لذلك توجه إليه مرة أخرى بالسؤال قائلا"لست متعودا على الإعتدار لكن قل لي أين أنا؟ و إلى أين أذهب؟أو بالأحرى لماذا أنا هنا؟
أجابه الهيكل بنبرة جافة استهجن بها فضوله: "أنصحك بالتقليل من الكلام و لا تسأل من تمر بهم من الهياكل المستلقية على ضفاف الوادي فلن يجيبك أحد فأنت وحدك من سيقوم على جلية الأمر, لم ينط بي الجواب عن أمور لا تهمني, وداعا فمهلة الإستحمام كادت تنتهي, و أنا لا أريد أن تصبح عظامي رميما حتى يسهل على الظلام ابتلاعها, بل أريدها هكذا صلبة متماسكة, أشهد زمرتك الذين سيأتون تباعا واحدا تلو الآخر عاجلا أم آجلا سيلحقون بك"
فجأة صاح الهيكل من ألم فظيع ألم به: تبا لك قلت ما كان ينبغي علي إخفاءه تبا لك من شقي من أي معهد تحقيق تخرجت؟"
فإختفى سريعا في غطش الليل البهيم, و دون سابق انذار شعر الغريب بتلك القوة الخفية تدفعه من جديد نحو الأمام لكن إلى أين؟ أتكون نبوءة العراف قد صدقت؟ مستحيل هذا هراء يجب أن أطرده عن مخيلتي المكبلة.
و بينما هو كذلك يتلوى بين براثن هواجسه دفع بقوة, و كأنه خرج لتوه من فوهة مدفع ناري ليرمى في مكان رحب تجمدت فيه حركته و شلت, عندها شعر بصدره يصيق و يضيق كأنما يصعد في السماء حتىعصرت روحه و تبدت طيفا على شكل جسد بشري شفاف لا تقف أمامه الحواجز المادية,حينها انبلج الظلام عن ضوء شديد التوهج بدد اليحموم عن غرفة أنيقة تحيط بها الأرائك المطرزة بخيوط من الذهب ومدت بها النمارق المصنوعة من القز الرفيع فبدا المشهد وكأنها يد صانع ماهر ساحر أثته بفنية متناهية, أما الحيطان فقد كانت مليئة بكتابات كان يلم ببعضها و رسومات لم يتذكر أين مر به طيفها, رفع رأسه شيئا ما, فإذا بعينيه تلتقيان بنظرات رجل,رجل بجسد إنسان يكلله رأس ثعلب يبدوا علي ملامحه جد الملوك ووقارهم, متربع على كرسي مصنوع من التبر الممزوج بالعاج و الزجبرد و الياقوت الأحمر, مفروش بفراء السباع الضارية المتوحشة, و على يمينه يجلس رجل جسده جسد إنسان و رأسه رأس الطائر أبو منجل, يبدو عليه و قار العلماء و جلال الحكماء . وهناك خلفهما يقف كلب سلوقي أسود ضخم توحي هيئته استعداده الدائم للإنقضاض و المطاردة المحتملة, و بمحاذاته يقف ذئب قوي يتطاير الشرر من عينيه الزرقاوتين, تاه الغريب في غرابة المكان و عجائبيته فلم يشعر متى امتلأت تلك الغرفة بملايين الأشباح الشفافة التي كان نصفها أبيض و النصف الآخر كان أسودا قاتما,فارتجت القاعة بوشوشاتهم و أصواتهم المزدوجة النبرة, حتى يكاد يخيل للمرء أنه في ميدان من ميادين القاهرة العامرة, لكنها كانت ضربة واحدة من القاضي ساد على إثرها صمت رهيب تقشعر له الأبدان و ترشح صبيبا من العرق,وفي هدوء مصحوب بموسيقى العدالة الأزلية و ضع أربعة من الرجال الأقوياء يلبسون ملابس رثة و ممزقة يختلفون تماما عن من كانوا حاضرين بالغرفة,وضعوا ميزانا كبيرا و ضخما, كانت كفتاه بحجم جناح طير العقاب,فدفعوا الغريب إليه حتى التصق موضع قلبه بمجس عجيب معلق على ابرته,فشعر لأول مرة بالوجل و الخوف و الدهشة و الحيرة,فاخيرا فكت عقدة لسانه و فكره, الأمر الذي جعله يتطاول و يطلق العنان لسؤال حيره في حضرة القاضي قائلا :"لما انا هنا؟"أجابه القاضي بحزم :"نحن من يسأل, و ما أنت هنا إلا لتجيب فقط, قل ما صفتك قبل ان تنزل بك الأقدار إلى موطأ قدميك؟"أجابه الغريب بصدق مرغم عليه : "كنت مسؤولا نعم مسؤولا و مسؤولا عن أشياء كثيرة"
قال القاضي:" إذن أنت تعترف تحملك المسؤولية لكن تذكر فعلت هذا رغما عنك و ليس بمحض ارادتك و سلطانك, ظننت نفسك فوق المساءلة, وبهذا كنت تتبجح فهأنت تحاسب الآن فنظر عن يمينه إلى الكلب الحارس الذي مد إليه و رقة صغيرة بيضاء ثم نظر ناحية الذئب الذي سلمه ملفا ضخما يتساقط منه سائل أسود,ففتحه مقلبا أوراقه قائلا:" كنت موظفا بسيطا ثم التحقت بحزب معروف و بعد سنتين من النفاق و الكذب تمكنت من الإنشقاق و استفردت برئاسته, ترأست عدة جمعيات جمعت منها مالا بطرق مشبوهة حينها حصلت على منصب نائب برلماني ثم و زير, فوتت العديد من المشاريع لأقربائك ولم تتوخى مبدأ التكافؤ و المؤهلات هشمت الرؤوس ووووو .... كنت فرحا بحصانتك, كم كنت مغرورا "
هنا طفح الكيل بالغريب فصاح غاضبا من تكون حتى تحاكمني يا هذا ألا تعلم من أكون انا فلان بن فلان العلاني, العائلة الضاربة في العراقة, المليئة بالأعيان و رجال الدولة,أوتظن بهذه البهرجة و هذه الهالة التي لا ترقى حتى إلى أحقر فيلاتي ستحاكمني من تظن نفسك أنت كائنه؟ حيرتني فقط قل لي من تكون؟ قل!! هذا أمر, من تكون؟قهقه القاضي ساخرا :"هنا ياهذا تلغى المراتب و الألقاب و الأسماء و المناصب, الكل هنا شيء واحد, ألم تسمع قولتهم المشهورة من "أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه" أما أنامن أكون فسيظل السؤال الذي سيأكل قلبك و ينخره أبدا مؤبدا لا نقض ساري عليه و لا استئناف, لقد حكمت على نفسك بنفسك ودموع البؤساء و المهمشين ستلهب شفتيك رفعت الجلسة"
فجاة اختفت القاعة بحضورها وأصواتها و بقي وحيدا, سجين قفص بين الفضاء و الأرض,قفص مصنوع من ألياف الظلام, وهو يصيح بقوة تعيد صداها تلك القضبان آلاف المرات, يصيح: هل أنا كنت هو؟ و من هو؟ و أين أنا؟ و اين هو؟