قال الترمذي: حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الْحَفَرِيُّ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ طُلَيْقِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو يَقُولُ: رَبِّ أَعِنِّي وَلاَ تُعِنْ عَلَيَّ، وَانْصُرْنِي وَلاَ تَنْصُرْ عَلَيَّ، وَامْكُرْ لِي وَلاَ تَمْكُرْ عَلَيَّ، وَاهْدِنِي وَيَسِّر الْهُدَى لِي، وَانْصُرْنِي عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيَّ، رَبِّ اجْعَلْنِي لَكَ شَكَّارًا، لَكَ ذَكَّارًا، لَكَ رَهَّابًا، لَكَ مِطْوَاعًا، لَكَ مُخْبِتًا، إِلَيْكَ أَوَّاهًا مُنِيبًا، رَبِّ تَقَبَّلْ تَوْبَتِي، وَاغْسِلْ حَوْبَتِي، وَأَجِبْ دَعْوَتِي، وَثَبِّتْ حُجَّتِي، وَسَدِّدْ لِسَانِي، وَاهْدِ قَلْبِي، وَاسْلُلْ سَخِيمَةَ صَدْرِي". قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
صحيح جامع الترمذي، وصحيح سنن أبي داود، وصحيح ابن ماجة
شرح غريب الحديث:
امْكُرْ لِي: اهدني لطريق دفع أعدائي.
لاَ تَمْكُرْ عَلَيَّ: لا تهدي عدوي إلى طريق دفعه إياي.
بَغَى: البغي: التعدي والظلم.
رَهَّابًا: كثير الخوف.
مُخْبِتًا: خاضعا خاشعا متواضعا.
أَوَّاهًا: متذللا كثير البكاء.
مُنِيبًا: راجعاً من المعصية إلى الطاعة أو تائباً.
حَوْبتي: الْحَوْبةُ: الخطيئة والإثم وتطلق على المصيبة.
وَسَدِّدْ: السداد: الاستقامة في العمل والصواب في القول.
سَخِيمَةَ: السخيمة: الحقد والغش والغل:
الشرح من: تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، وعون المعبود شرح سنن أبي داود:
( رَبِّ أَعِنِّي ): أَيْ: "عَلَى أَعْدَائِي فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا مِنْ النَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ وَالْجِنِّ وَالإنْسِ"، و " وَفِّقْنِي لِذِكْرِك وَشُكْرِك وَحُسْنِ عِبَادَتك".
( وَلاَ تُعِنْ عَلَيَّ ): أَيْ لاَ تُغَلِّبْ عَلَيَّ مَنْ يَمْنَعُنِي مِنْ طَاعَتِك مِنْ شَيَاطِين الإِنْس وَالْجِنّ.
( وَانْصُرْنِي وَلاَ تَنْصُرْ عَلَيَّ ): أَيْ أَغْلِبْنِي عَلَى الْكُفَّارِ وَلاَ تُغَلِّبْهُمْ عَلَيَّ، أَوْ اُنْصُرْنِي عَلَى نَفْسِي فَإِنَّهَا أَعْدَى أَعْدَائِي، وَلاَ تَنْصُرْ النَّفْسَ الأَمَّارَةَ عَلَيَّ بِأَنْ أَتَّبِعَ الْهَوَى وَأَتْرُكَ الْهُدَى.
( وَامْكُرْ لِي وَلاَ تَمْكُرْ عَلَيَّ ): قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمَكْرُ الْخِدَاعُ وَهُوَ مِن اللَّهِ إِيقَاعُ بَلاَئِهِ بِأَعْدَائِهِ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ، وَقِيلَ هُوَ اِسْتِدْرَاجُ الْعَبْدِ بِالطَّاعَةِ فَيَتَوَهَّمُ أَنَّهَا مَقْبُولَةٌ وَهِيَ مَرْدُودَةٌ, فَالْمَعْنَى: ( اللَّهُمَّ اهْدِنِي إِلَى طَرِيقِ دَفْعِ أَعْدَائِي عَنِّي وَلاَ تَهْدِ عَدُوِّي إِلَى طَرِيقِ دَفْعِهِ إِيَّاهُ عَنْ نَفْسِهِ) كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ.
( وَاهْدِنِي ): أَيْ دُلَّنِي عَلَى الْخَيْرَاتِ.
( وَيَسِّرْ لِي الْهُدَى ): أَيْ وَسَهِّلْ اِتِّبَاعَ الْهِدَايَةِ أَوْ طُرُقَ الدَّلاَلَةِ حَتَّى لاَ أَسْتَثْقِلَ الطَّاعَةَ وَلاَ أَشْتَغِلَ عَنْ الطَّاعَةِ.
( وَانْصُرْنِي عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيَّ ): أَيْ ظَلَمَنِي وَتَعَدَّى عَلَيَّ.
( رَبِّ اِجْعَلْنِي لَك شَكَّارًا ): أَيْ كَثِيرَ الشُّكْرِ عَلَى النَّعْمَاءِ وَالآلاَءِ، وَتَقْدِيمُ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ لِلاِهْتِمَامِ وَالاِخْتِصَاصِ أَوْ لِتَحْقِيقِ مَقَامِ الإِخْلاَصِ.
( لَك ذَكَّارًا ): أَيْ "كَثِيرَ الذِّكْر"، "فِي الأوْقَات وَالآنَاء".ِ
( لَك رَهَّابًا ): أَيْ " كَثِيرَ الْخَوْفِ"، "فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ".
( لَك مِطْوَاعًا ): بِكَسْرِ الْمِيمِ مِفْعَالٌ لِلْمُبَالَغَةِ، أَيْ كَثِيرَ الطَّوْعِ وَهُوَ الاِنْقِيَادُ وَالطَّاعَةُ.
( لَك مُخْبِتًا ): أَيْ خَاضِعًا خَاشِعًا مُتَوَاضِعًا مِنْ الإِخْبَاتِ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ : أَخْبَتَ خَشَعَ.
( إِلَيْك أَوَّاهًا ): أَيْ مُتَضَرِّعًا فَعَّالٌ لِلْمُبَالَغَةِ مِنْ أَوَّهَ تَأْوِيهًا وَتَأَوَّهَ تَأَوُّهًا. أَيْ اِجْعَلْنِي حَزِينًا وَمُتَفَجِّعًا عَلَى التَّفْرِيطِ، وَقِيلَ الأَوَّاهُ الْبَكَّاءُ.
( مُنِيبًا ): أَيْ رَاجِعًا. قِيلَ التَّوْبَةُ رُجُوعٌ مِنْ الْمَعْصِيَةِ إِلَى الطَّاعَةِ، وَالإِنَابَةُ مِن الْغَفْلَةِ إِلَى الذِّكْرِ وَالْفِكْرَةِ، وَالأََوْبَةُ مِن الْغَيْبَةِ إِلَى الْحُضُورِ وَالْمُشَاهَدَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَإِنَّمَا اِكْتَفَى فِي قَوْلِهِ أَوَّاهًا مُنِيبًا بِصِلَةٍ وَاحِدَةٍ لِكَوْنِ الإنَابَةِ لاَزِمَةً لِلتَّأَوُّهِ وَرَدِيفًا لَهُ، فَكَأَنَّهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَمِنْ قَوْلِهِ: { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ }.
( رَبِّ تَقَبَّلْ تَوْبَتِي ): أَيْ بِجَعْلِهَا صَحِيحَةً بِشَرَائِطِهَا وَاسْتِجْمَاعِ آدَابِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَتَخَلَّفُ عَنْ حَيِّزِ الْقَبُولِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ }. ( وَاغْسِلْ حَوْبَتِي ): بِفَتْحِ الْحَاءِ وَيُضَمُّ أَيْ اُمْحُ ذَنْبِي.
( وَأَجِبْ دَعْوَتِي ): أَيْ دُعَائِي. وَأَمَّا قَوْلُ اِبْن حَجَرٍ الْمَكِّيِّ: ذُكِرَ لأَنَّهُ مِنْ فَوَائِد قَبُول التَّوْبَة، فَمُوهِمٌ أَنَّهُ لاَ تُجَابُ دَعْوَةُ غَيْرِ التَّائِبِ، وَلَيْسَ الأَمْرُ كَذَلِكَ لِمَا صَحَّ مِنْ أَنَّ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ مُسْتَجَابَةٌ وَإِنْ كَانَ فَاجِرًا , وَفِي رِوَايَة وَلَوْ كَانَ كَافِرًا.
( وَثَبِّتْ حُجَّتِي ): أَيْ عَلَى أَعْدَائِك فِي الدُّنْيَا وَالْعُقْبَى وَثَبِّتْ قَوْلِي وَتَصْدِيقِي فِي الدُّنْيَا وَعِنْدَ جَوَابِ الْمَلَكَيْنِ.
( وَسَدِّدْ لِسَانِي ): أَيْ صَوِّبْهُ وَقَوِّمْهُ حَتَّى لاَ يَنْطِقَ إِلاَّ بِالصِّدْقِ وَلاَ يَتَكَلَّمَ إِلاَّ بِالْحَقِّ.
( وَاهْدِ قَلْبِي ): أَيْ "إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ" و " إِلَى مَعْرِفَة رَبِّي".
( وَاسْلُلْ ): بِضَمِّ اللاّمِ اللأُولَى أَيْ أَخْرِجْ، مِنْ سَلَّ السَّيْفَ إِذَا أَخْرَجَهُ مِنْ الْغِمْد.ِ ( سَخِيمَةَ صَدْرِي ): أَيْ غِشَّهُ وَغِلَّهُ وَحِقْدَهُ وَحَسَدَهُ وَنَحْوَهَا مِمَّا يَنْشَأُ مِنْ الصَّدْر وَيَسْكُنُ فِي الْقَلْب مِنْ مَسَاوِئ الأَخْلاقِ. قَالَهُ عَلِيّ الْقَارِيّ.