كتاب المدهش لابن الجوزي59 كان يتوقف في خروجه لو ترك، ويتشبث بذيل لو نفع، ولسان الأسى، يصيح بمن أسا:
ما زال مذ نزل، يرفع قصص الغصص، على أيدي أنفاس الأسف، فتصعد بها صعداء اللهف:
واعجباً من فاق آدم، بلا معين على الحزن، هوام الأرض لا تفهم ما يقول، وملائكة السماء عندها بقايا "أتجعل" فهو في كربة، وحيد بدار غربة:
الفصل الثامن والثمانون
أخواني: أيام العافية غنيمة باردة، وأوقات السلامة لا تشبهها فائدة، فتناول ما دامت لديك المائدة، فليست الساعات الذاهبات بعائدة. كأنكم بالقيامة قد قامت، وبالنفس الأمارة بالسوء، قد لامت، وانفتحت عيون. طال ما نامت، وتحيرت قلوب العصاة وهامت.
شبكة الحساب ضيقة الأعين. لا يعبرها شيء، وكيل المطالبة خصم ألد، أينطق بأقل عذرك بين يدي سحبان المناقشة، كلا أيقن بالسجن، يا هذا، إنك لم تزل في حبس، فأول الحبوس صلب الأب، والثاني بطن الأم، والثالث القماط، والرابع المكتب، والخامس الكد على العيال، والسادس الموت، والسابع القبر فإن وقعت في الثامن. نسيت مرارة كل حبس. يا هذا، ادخل حبس التقوى باختيارك أياماً. ليحصل لك الإطلاق في الأغراض على الدوام، ولا تؤثرن إطلاق نفسك فيما تحب، فإنه يؤثر حبس الأبد في النار، إلى متى تسجن عقلك في مطمورة هواك? أو يحبس طاوس في ناووس? ويحك. تفكر فيما بين يديك، وقد هان الصبر عليك، لما خفيت العواقب على المتقين، فزعوا إلى القلق، وأكثروا من البكاء، فعذلهم من يشفق عليهم، وما يدري العاذل، إن العذل على حمل الحزن علاوة.
قيل لبعض العباد: لم تبكي? قال: إذا لم أبك فما أصنع?
قوي حصر الخوف فاشتد كرب القوم، فكل ما هب نسيم من الرجاء ولوا وجوههم شطره:
عبارة النسيم لا يفهمها إلا الأحباب. وحديث البروق. لا يروق إلا للمشتاق:
العارف غائب عند ذكر الدنيا، وحاضر عند ذكر الأخرى وطائش عند ذكر الحبيب، يحضر المجلس موثقاً بقيود الهم، فإذا ذكر الحبيب قطع الوجد السلاسل، إن مداراة قيس تمكن، ولكن لا عند ذكر ليلى. للخفاجي: لو برزت ليلى ليلاً، لصار الظلام عند قيس، أوضح من ضحى:
من سمع ذكر الحبيب. ولم يثر قلبه عن مستقره فهو مدع.
للمهيار: كلامي صحيح المزاج، خفيف الروح، أنا صايغ صانع، بابلي لفظي يبلبل، أنا ماشطة القوم، أنا لسان الوقت: أنا طبيب لبيب. أمزج التحذير بالتشويق للعاملين، وأجعل كأس التخويف. صرفاً للغافلين، وأجتهد في التلطف. جهدي بالعارفين، الخام يعجب البدوي، وأما الحضري فدق مصر، الأدوية الحادة. تؤذي الأبدان النحيفة، الزاهد ملاح الشط، والعارف ناتاني المركب. الزاهد مقتب، والعارف في محمل، نفس الزاهد تسير به، وقلب العارف يطير به، العارف حال في الرحمة، غريب في الوطن، خلوته بمعروفه طوره، متى تقاضاه الشوق. حضر لا عن ميعاد، إذا وطى بساط الإنبساط. قال "أرني" فإذا سمع صاعقة الهيبة. قال "تبت إليك" إذا رأيتم ناطقاً بالحكمة قد طرب، فاعذروه، وإنه قد صدر ولم تردوا بعد، العالم المحقق. قد اعتصر من كروم المعارف، خندر يس المعاني، فشرب منها حتى غلب، فإذا عربد بالطرب. فلم يعذره الصاحي. أمر ساقي النطق. أن يدور بكأس اللفظ. على أرباب الألباب فإذا القوم. نشاوى من الثمل، فيصبح حينئذٍ مواقف "تراود فتاها" "فذلكُنَّ الذي لُمْتُنَّني فيه" عبرناكم يا منقطعين، وعلينا أن نرد، لا بد للأمير أن يقف للساقة، عودوا إلى أوكار الكسل، فنحن على نية دخول الفلاة، اسمعوا وصايانا. يا مودعين، إذا جن الليل، فسيروا في بوادي الدجى، وأنيخوا بوادي الذل، واجلسوا في كسر الانكسار، فإذا فتح الباب للواصلين، دونكم فاهجموا هجوم الكذابين وابسطوا كف :وتصدق علينا" لعل هاتف القبول يقول "لا تثريب عليكم اليوم".
الفصل التاسع والثمانون
آه لنفس أقبلت على العدو وقبلت، وبادرت إلى ما يؤذيها من الخطايا وعجلت، من لها إذا سئلت عن قبيحها? فخجلت، وسل عليها سيف العتاب. فقتلت.
يا من هو في هوة الهوى قد هوى، كم مسلوب بكف النوى عما نوى، أين المستقر عيشه? أدركه التوى فالتوى، أين الجبار الذي إذا علق بالشوى شوى، أين شبعان اللذات أدركه الطوى لما طوى ليته لما ذهب بالأصل، تيقظ للفرع، فارعوى، إلى متى خلف ووعد الدنيا كله خلف.
يا متعباً نفسه بالحرص، والقدر ما يتغير، الراضي صرفه، كم غرقت سفينة مهجة في لجة حرص، الطمع يخنق العصفور قبل الفخ، لما قنعت العنكبوت بزاوية البيت، سيق لها الحريص وهو الذباب، فصار قوتاً لها، وصوت به لسان العبرة. رب ساع لقاعد، ترسل قلبك مع كل مطلوب من الهوى، ثم تبعث وراه وقت الصلاة ولا يلقاه الرسول، فتصلي بلا قلب.
الفصل التسعون أخواني ألا ذو سمع وبصر يعلم أن الأعمار فيها قصر، إلا متلمح ما في الغير من العبر إلا ذاكر بيت التراب والمدر. يا من يجول في المعاصي، قلبه وهمه، يا معتقداً صحته، فيما هو سقمه، يا من كلما طال عمره، زاد إثمه، أين لذة الهوى? رحل المطعوم وطعمه.
يا من سيجمعه اللحد عن قليل، ويضمه، كيف يوعظ من لا يعظه عقله ولا فهمه? كيف يوقظ من قد نام قلبه لا عينه ولا جسمه? ويحك تدارك أمرك قبل الفوت، أتنفع الاستغاثة? والسم قد وصل إلى القلب. إن الدرياق يصلح قبل اللسع، ومذهب ابن سريح يستعمل قبل الطلاق.
لمن أُحدّث والقلب غائب، لمن أُعاتِب والفكر ذاهل، وآسفاً من ضرب الخراج، على بلد الخراب، ويحك، أجمادٌ أنت أم حيوان? هذا الفهد على خساسة خلقه يصاد بالصوت الحسن، ومتى وثب على الصيد ثلاث مرات ولم يدركه، غضب على نفسه، كم قد وثبت على هواك مرة فلم تقدر عليه، فأين غضبك على التقصير، هيهات ليس عند الطاوس إلا حسن الصورة، تفيق في المجلس لحظة ثم تذكر الشهوات فيغمى عليك، إن الغراب إذا سكر بشراب الحرص تنفل بالجيف، فإذا صحا من خماره ندب على الطلل، لما عزت نفس الببغاء زاحمت الآدمين في النطق، وهي تتناول