كتاب المدهش لابن الجوزي58 أخواني: المفروح به من الدنيا هو المحزون عليه، وبقدر الالتذاذ يكون التأسف، ومن فعل ما شاء لقي ما ساء. الدنيا فلاة فلا تأمن الفلاة، بل تيقن أنها مارستان بلا، ولا تسكن إليها وإن أظهرت لك الولا، على أنها تخفض من علا، فلينظر الإنسان يمنة فهل يرى إلاّ محنة? ثم ليعطف يسرة فهل يرى إلا حسرة? أما الربع العامر فقد درس وأما أسد الممات ففرس وأما الراكب فكبت به الفرس وأما الفصيح فاستبدل الخرس وأما الحكيم فما نفعه إن احترس، ساروا في ظلام ظلمهم ما عندهم قبس ووقفت سفينة نجاتهم لأن البحر يبس، وانقلبت دول النفوس كلها في نفس وجاء منكر بآخر نبأ، ونكير بأول عبس أفلا يقوم لنجاته? من طال ما جلس. آه، لنفس رفلت من الغفلة في أثوابها فثوى بها الأمر إلى عدم ثوابها، آه لعيون أغشاها الأمل فسرى بها إلى سرابها، آه، لقلوب قلبها الهوى عن القرآن إلى أربابها فربا بها، آه لمرضى علم الطبيب قدر ما بها، وقد رمى بها، لأبي العتاهية: يا مغرورين بحبة الفخ ناسين خنق الشرك، تذكروا فوات الملتقط مع حصول الذبح "فلا تغرَّنَّكُم الحياة الدنيا" الحذر الحذر من صياد يسبق الطير إلى مهابطه بفخاخ مختلفة الحيل، قدروا أنكم لا ترون خيط فخة، أما تشاهدون ذبائحه? في خيط "كما أخرج أبَوَيْكُم من الجنة".
للشريف الرضي: ألا يصبر طائر الهوى عن حبة مجهولة العاقبة، وإنما هي ساعة ويصل إلى برج أمنه. وفيه حبات: واعجباً أن يكون حامل الكتاب من الطير أقوى عزيمة منك، لعل وضعك على غير الاعتدال، الخلق يدل على الخلق، لا تكون الروح الصافية إلا في بدن معتدل ولا الهمة الوافية إلا لنفس نفيسة، لا يصلح لحمل الرسائل إلا الطير الأخضر أو الأنمر، لأنه إذا كان أبيض، كان كالغلام الصقلاني، والصقلاني فطير خام لم ينضج في محل الحمل، وإذا كان الطائر أسود دل على مجاوزة حد النضج إلى الاحتراق، فإن اعتدل اللون دل على نفاسة النفس وشرف الهمة، فحينئذٍ يعرف الطائر سر الجناح فيقول بلسان الحال: عرفوني الطريق بتدريج ثم حمّلوني ما شئتم، فإذا أدرج فعرف حمل فحمل فصابر الغربة. ولازم بطون الأودية وسار مع الفرات أو دجلة فإن خفيت الطريق تنسم الرياح وتلمح قرص الشمس وتراه مع شدة جوعه يحذر الحب الملقى خوفاً من دفينة فخ، يوجب تعرقل الجناح وتضييع المحمول فإذا بلغ الرسالة، أطلق نفسه في أغراضها داخل البرج. فيا حاملي كتب الأمانة إلى عبادان العبد أكثركم على غير الجادة وما يستدل منكم من قد راقه حب حب فنزل ناسياً ما حمل فارتهن بفخ قد نفخ فذبح، ومنكم من بان لتعرقل جناحه، وما قصده الذابح بعد فلا الحبة حصّلت ولا الرسالة وصلت.
لو صابرتم مشقة الطريق لانتهى السفر، فتوطنتم مستريحين في جنات عدن، فيا مهملين النظر في العواقب سلفوا وقت الرخص فما يؤمن تغير السعر، سلسلوا سباع الألسن فإن انحلت افترستكم، لا ترموا بأسهم العيون ففيكم تقع، رب راعي مقلة أهملها فأغير على السرح، من رأى الحقائق رأى عين غض طرفه عن الدارين، لو حضرتم حضرة القدس لعقبتم بنشر الأنس. يا هذا اعرف قدر لطفنا بك وحفظنا لك، إنما نهيناك عن المعاصي صيانة لك لا لحاجتنا إلى امتناعك، لما عرفتنا بالعقل حرمنا الخمر لأنها تستره، ومثل يوسف لا يخبأ، يا متناولاً للمسكر لا تفعل يكفيك سكر جهلك فلا تجمع بين خليطين، اجعل مراقبتك لمن لا تغيب عنه، وشكرك لمن تعنيك نعمه، وطاعتك لمن لا ترجو خيراً إلا منه، وبكائك على قدر ما فاتك منه، وارفع إليه يد الذل في طلب حوائج القلب تأتي وما تشعر.
يا هذا عندك بضائع نفيسة دموع ودماء، وأنفاس وحركات وكلمات ونظرات فلا تبذلها فيما لا قدر له، أيصلح أن تبكي لفقد ما لا يبقى? أو تتنفس أسفاً على ما يفنى، أو تبذل مهجة لصورة عن قليل تمحى أو تتكلم في حصول ما يشين ويتوى، واعجباً. من مجنون بلا ليلى ويحك دمعة فيك تطفي غضبنا، وقطرة من دم في الشهادة تمحو زللك، ونفس أسف ينسف ما سلف وخطوات في رضانا تغسل الخطيّات، وتسبيحة تغرس لك أشجار الخلد ونظرة بعبرة تثمر الزهد في الفاني ولكن تصحيح النقد شرط في العقد سلع "وإني لغفار" لا تباع إلا بدينار "لمن تاب" إذا كان خارجاً من سبيكة "وآمن" عن سكة "وعمل صالحاً" من دار ضرب "ثم اهتدى". يا هذا: لو استشعرت زرمانقة الزهد تحت مطرف "رب أشعث أغبر" وسحت في بادية "يدفعون" لأفضنا عليك خلع "إذا رأوا ذكر الله" يا هذا إن لم تقدر على كثرة العمل فقف على باب الطلب تعرض بجذبة من جذبات الحق ففي لحظة أفلح السحرة.
طريق الوصول صعبة وفي رجلك ضعف، ويحك دم على السلوك تصل، أول النخلة السحوق فسيلة، بداية الآدمي الشريف مضغة، ثمن المعالي جد الطلب والفتور داء مزمن، بلد الرياضة سحيق "لم تكونوا بالغيه إلا بشقِّ الأنفس" سحابة الصيف أثبت من قولك والخط على الماء أبقى من عهدك.
يا هذا، إذا حضر قلبك فنسيم الريح يذكرك، وإن غاب فمائة ألف نبي لا يوصلون التذكرة إليك، تالله لقد ألمعنا المعنى وما ألزمنا الزمنى.
الفصل السابع والثمانون
يا من يرحل في كل لحظة عن الدنيا مرحلة، وكتابه قد حوى حتى قدر خردلة، كن كيف شئت? فبين يديك الحساب والزللة، يا عجباً من غفلة مؤمن بالجزاء والمسئلة أيقين بالنجاة? أم غرور وبله.
أيها المطمئن إلى الدنيا وهي تطلبه بدخل، قد مرضت عين بصيرته فيها، فما ينفع الكحل، يتبختر في رياضها وما يصبح إلا في الوحل، انتبه للرحيل. ثم اشدد الرحل، واستبدل خصب المراب. عن قحل المحل، وتأمر على نفسك. فللنخلل فحل. تالله لقد كشفت الغير ما انسدل، فلم يبق مراء ولا جدل، هذا حمام الحمام قد هدل، فكم صرخ صوته وكم جدل، يا جائرين احذروا ممن إذا قضى عدل، واعلموا أن الآخرة ليس منها بدل، هذا هو الصواب، لو أن المزاج اعتدل، يا من عمره كزمان الورد، التقط واعتصر لا في زور، يا شمس العصر على القصر، قد بلغ مركبك ساحل الأجل، ووقف بعيرك. على ثنية الوداع، وقاربت شمس عمرك الطفل، وبقي من ضوء الأجل. شفق، فاستدرك باقي الشعاع. قبل غروب الشمس. البدار البدار. قبل الفوت، الحذار الحذار. قبل الموت، ما في المقابر من دفين. إلا وهو متألم من سوف.
يا هذا متى تبت بلسانك، وما حللت عقد الإصرار من قلبك، لم تصح التوبة، كما لو سكنت الأمراض بغتة من غير استفراغ، فإن المرض على حاله. يا هذا: إذا لم يتحقق قصدُ القلب. لم يؤثر النطق باللفظ، إن المكره على اليمين. لا تنعقد يمينه. "إنما الأعمال بالنيّات" وقلبه كله مع الهوى، "إن في البدن لمضغة. إذا صلحَتْ صلح البدن، وإذا فسدَتْ فسد البدن، ألا وهي القلب" أكثر الأمراض. أمراض الهوى، وأكثر القتلى بسيفه، أرباب الهوى، أطفال في حجور العادات وإن شابوا، انحدرت عزيمتك. في جريان نهر الهوى، فاصبر صبر مداد. لعلك تردها. ويحك. انتبه لإصلاح عيوبك، لعل المشتري يرضى، تالله. إن المشتري ما يحب بطء زحل، اكفف ثوب الكلام بالصمت. وإلا تنسل، اطف حراق الهوى. وإلا عمل، ارفق بزجاج العمر. فما ينشعب إذ انكسر. واعجباً، الظاهر غير طاهر، والباطن باطل، الأمل بخار فاسد، الرعونة علة صعبة، منام المنى أضغاث، رائد الآمال كذوب، مرعى المشتهي هشيم، العجز شريك الحرمان، التفريط مضارب الكسل، ديجور الجهل معتم، سؤر الهوى مغرق، روض اللهو وبى، غدير اللذات غدر.
كم قد لمتك وما نفع، كم قد نصبت لك شركاً وما تقع، قفل قلبك رومي. ما يقع عليه فش.
يا هذا: المجاهدة حرب. لا يصلح لها إلا بطل، متى تغير من جنود عزمك على الإنابة قلب واحد، لم أمن قلب الهزيمة عليك. أيها المريد. تلطّف بنفسك في الرياضة تصل، مشي القطا بدبير، ومشي العصفور نقزان، العنكبوت الفطن ينسج في زاوية، والمغفل ينسج على وجه الأرض، كن قيماً على جوارحك، وفِّها الحظوظ، واستوف منها الحقوق، أما ترى حاضن البيض يقلبه بمنقاره، لتأخذ كل بيضة حظها من الحضن، ثم أكثر ساعات الحضن على الأنثى، لاشتغال الذكر بالكسب، فإذا صار البيض فراخاً كان أكثر الزق على الأب، "فلا يُخرجَنَّكُما من الجنة فتشقى" ما لقيت حواء عشر ما لقي آدم، لأنها وإن شاركته في العلم بفقد صورة النعيم، فهو منفرد عنها بملاحظة المعنى، بعد عز "اسجدوا لآدم" يقبض جبريل على ناصيته للإخراج، والمدنف يقول ارفق بي: