كتاب المدهش لابن الجوزي 45 تقسم الصالحون عند الموت، فمنهم من صابر هجير الخوف، حتى قضى نحبه، كعمر كان يقول عندالرحيل: الويل لعمر إن لم يغفر له. ومنهم من أقلقه عطش الحذر فيبرده بماء الرجاء كبلال. كانت زوجته تقول: واحرباه، وهو يصيح: واطرباه، غداً نلقى الأحبة محمداً وحزبه. علم بلال أن الإمام لا ينسى المؤذن، فمزج كرب الموت براحة الرجاء في اللقاء.
قال سليمان التيمي لابنه عند الموت: اقرأ علي أحاديث الرخص لألقى الله وأنا حسن الظن به. إلى متى تتعب الرواحل? لا بد من مناخ. كان أبو عبيدة الحواص يستغيث في الأسواق وينادي: واشوقاه إلى منيرانيولا أراه.
الفصل السادس والخمسون
يا من أيام عمره في حياته معدودة، وجسمه بعد مماته مع دودة.
يا من عمره يقضي بالساعة والساعة، يا كثير التفريط. في قليل البضاعة، يا شديد الإسراف يا قوي الإضاعة، كأني بك عن قلي ترمى في جوف قاعة، مسلوباً لباس القدرة وبأس الاستطاعة، وجاء منكر ونكير في أفظع الفظاعة، كأنهما أخوان في الفظاظة من لبان الرضاعة، وأمسيت تجني ثمار هذي الزراعة، وتمنيت لو قدرت على لحظة الطاعة وقلت "ربِّ ارجعوني" ومالك كلمة مطاعة، يا متخلفاً عن أقرانه قد آن أن تلحق الجماعة. مركب الحياة تجري في بحر البدن برخاء الأنفاس، ولا بد من عاصف قاصف تفككه وتغرق الركاب. يا لقم الآجال يا أشباه الدجال، أما تسمعون صريف أنياب الصروف? كم غافل وأكفانه عند القصار? ولبن قدره قد ضرب، يا سخنة عين قرت بالغرور، يا خراب قلب عمر بالمنى، العمر زاد في بادية، يوخد منه ولا يطرح فيه، يا من عمره يذوب ذوبان الثلج توانيك أبرد، كان بعض من يبيع الثلج ينادي عليه: ارحموا من يذوب رأس ماله يا مؤخراً توبته حتى شاب وقت الاختيار، يا ابن السبعين لقد أمهل المتقاضي، البدار البدار فنقاض البدن قد عرقب الأساس.
بادر التوبة من هفواتك قبل فواتك، فالمنايا بالنفوس فواتك، أعجب خلائقَ الخلائق، محسن في شبابه، فلما لاح الفجر فجر، آه لموسم فاتك، لقد ملأ الأكياس الأكياس، رجلت الرباحة فألحقهم في المنزل.
يا هذا عقلك يحثك على التوبة وهواك يمنع والحرب بينهما، فلو جهزت جيش عزم فر العدو، تنوي قيام الليل فتنام، وتحضر المجلس فلا تبكي، ثم تقول ما السبب? "قل هو مِن عند أنفسكم" عصيت النهار فنمت بالليل، أكلت الحرام فأظلم قلبك، فلما فتح باب الوصول للمقبولين طردت، ويحك فكر القلب في المباحات يحدث له ظلمة، فكيف في تدبير الحرام? إذا غير المسك الماء منع التوضوء فكيف بالنجاسة، متى تفيق من خمار الهوى? متى تنته من رقاد الغفلة? للشريف الرضي:
أين أنت من أقوام كشفت عن أبصار بصائرهم أغطية الجهل? فلاحت لهم الجادة فجدوا في السلوك، كان مسروق يصلي حتى تتورم قدماه، فتقعد امرأته تبكي مما تراه يصنع بنفسه.
يا هذا، أول الطريق سهل ثم يأتي الحزن، في البداءة إنفاق البدن وفي التوسط إنفاق النفس، فإذا نزل ضيف المحبة تناول القلب فأملق المنفق قلق القوم بلا سكون، انزعاجهم بلا ثبات، خلقت جفونهم على جفاء النوم، فلو سمعت ضجيجهم في دياجي الليل. أحصر القوم في سبيل المحبة، فأقعدتهم عن كل مطلوب "لا يستطيعون ضرباً في الأرض".
لاحت نار ليلى ليلاً فنهض المجنون، فخبت فضل فضج.
الفصل السابع والخمسون إخواني، قد كفت الكفات في العبر، ووعظ من عبر من غبر، وقد فهم الفطن الأمر وخبر، وما عند الغافل من هذا خبر. ابك على نفسك قبل أن يبكى عليك، وتفكر في سهم قد صوب إليك، وإذا رأيت جنازة فاحسبها أنت. وإذا عاينت قبراً فتوهمه قبرك وعد باقي الحياة ربحاً.
لمتمم بن نويرة: غريب، يا راكباً عجز الهوى وفي يده جنيب، يا ماراً على وجهه قل لي متى تنيب? ألا تأخذ قبل الفوت بعض النصيب? ألا تتزود ليوم شره شر عصيب?، ألا تخرج عن وادي الجدب إلى الربع الخصيب? أحاضر أنت قل لي، ما أكثر ما تغيب، ألا مريض لبيب يقبل رأي الطبيب، إن الرحيل بلا عدة فج، فكيف به على بعد الفج? أحرم عن الحرام وقدر أنه حج، واسكب دموع الأسى واحسبه ثج، واستغث من الزلل ومثله العج، وبادر، فقد تفوت الوقفة أهل وج، اقبل نصحي فمثل نصحي لا يمج. كم فهم وعظي ذو فطنة فهج، يا من يقول إذا شئت تبت. اا
إن خرجت اليوم ولم تتب، خرجت من أولي الفهم.
وقوع الذنب على القلب كوقوع الدهن على الثوب، إن لم تعجل غسله وإلا انبسط " وإنْ منكُمْ لَيُبْطِئَنَّ.
ما دامت نفسك عند التوبيخ تنكسر، وعينك وقت العتاب تدمع، ففي قلبك بعد حياة، إنما المعاصي أوجبت سكتة، فانشق هواك حراق التخويف وقد عطس، يا من قد أبعدته الذنوب عن ديار الأنس، ابك وطر الوطن عساك ترد. قال بعض السلف: رأيت شاباً في سفح جبل عليه آثار القلق ودموعه تتحادر، فقلت: من أين?، فقال: آبق من مولاه، قلت: فتعود فتعتذر? فقال: العذر يحتاج إلى حجة ولا حجة للمفرط، قلت فتتعلق بشفيع? قال: كل الشفعاء يخافون منه، قلت: من هو? قال: مولى رباني صغيراً فعصيته كبيراً، فوا حيائي من حسن صنعه وقبح فعلي، ثم صاح فمات، فخرجت عجوز فقالت: من أعان على قتل البائس الحيران? فقلت: أقيم عندك أعينك عليه، فقالت: خلّه ذليلاً بين يدي قاتله عساه يراه بغير معين فيرحمه.
أيها التائبون بألسنتهم ولا يدرون ما تحت نطقهم?، لا يحكم بإقراركم " حتَّى تعلَموا ما تقولونَ"، متى صدقت توبة التائب بنى بيت التعبد بصخور العزائم ولم ينته في أساسه دون الماء، ما ضرب بسيف العزيمة قط إلا قط، التوبة الصادقة تقلع آثار الذنوب، إذا قرئ على التائب عهد "ألَسْتُ " ذكر الإقرار وعرف الشهود، فخجل من الخيانة فجرت العين وأطرق الرأس، إن التائبين كاتبوا الله بدموعهم وهم ينتظرون الجواب.يا معاشر التائبين من أقامكم وأقعدنا? " إنْ نحنُ إلاّ بشرٌ مثلُكُمْ ولكنَّ اللهَ يمُنُّ على مَنْ يشاءُ مِنْ عبادِهِ" قفوا لأجل زمن ، ارحموا من قد عطب.