كتاب المدهش لابن الجوزي 20 يا سوق الأكل أين أرباب الصيام? يا فرش النوم أين حراس الظلام? درست والله المعالم ووقعت الخيام، قف بنا على الأطلال.
للمهيار:
أترى أي طريق سلكوا? أترى أي شعب أخذوا?.
ما وصل القوم إلى المنزل. إلا بعد طول السرى، ما نالوا حلاوة الراحة إلا بعد مرارة التعب.
لصردر:
ما حظي الدينار بنقش اسم الملك، حتى صبرت سبيكته على التردد على النار، فنفت عنها كل كدر، ثم صبرت على تقطيعها دنانير ثم صبرت على ضربها على السكة، فحينئذٍ ظهر عليها رقم النقش "كتب في قلوبهم الإيمان".
من طلب الأنفس، هجر الألذ، من اهتم بالجوهر نسي العرض، يا صفراء يا بيضاء غرى غيري.
يا معشر التائبين "اصبروا وصابروا ورابطوا" مكابدة البادية تهون عند ذكر منى المضحى في بوادي الجوع والمعشى بوادي السهر إلى أن تلوح بوادي القبول، إن ونت في السير ركائبكم. فأقيموا حداة العزم تدلج.
يا مطروداً عن صحبة الصالحين، امش في أعراض الركب، وناشد حادي القوم، لعله يتوقف لك.
الفصل السادس
أخواني: انتبهوا من رقدات الأغمار، وانتبهوا لحظات الأعمار، وقاطعوا الكسل فقد قطع الأعذار، واسمعوا زواجر الزمن فما داجي الدجى ولقد بهر النهار، وخذوا بالحزم فقد شقي تلف من رضي بشفا جرف هار.
للشريف الرضي:
العمر يسير وهو يسير، فاقصروا عن التقصير في القصير، أما دراك دراك قبل امتناع الفكاك، حذار حذار قبل قدوم القرار، أما يحرك سوق الرهب سوق الهرب? أما يحث التعليم على الدأب الأدب? أليس الزمان يعير ثم يغير? وهب إنه وهب، أما ضرب الدهر? فاستحال الضرب، مر العمر والغمر مشغول عما ذهب بالذهب، كم فارق من رافق فسلا من سلا بالسلب، أين الفهم? فقد المعنّى المعنى وعج العجب، أين الثمرة? أيتها .. في الغرب، حالت غمايم الهوى، بينكم وبين شمس الهدى، وغدا ما في يومكم ينسيكم غداً حتى كأن الرحيل حديث خرافة، أو كان الزاد يفضل عن المسافة.
أيها الشيوخ: آن الحصاد، أيها الكهول: قرب الجداد، أيها الشباب: كم جرد الزرع جراد.
واعجبا!.. يتأمل الحيوان البهيم العواقب، وأنت لا ترى إلا الحاضر، ما تكاد تهتم بمؤنة الشتاء حتى يقوى البرد، ولا بمؤنة الصيف حتى يشتد الحر، ومن هذه صفته في أمور الدنيا "فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا" هذا الطائر إذا علم أن الأنثى قد حملت، أخذ ينقل العيدان لبناء العش قبل الوضع، أفتراك ما علمت قرب رحيلك إلى القبر? فهلا بعثت لك فراش تقوى "فلأنفسهم يمهدون" هذا اليربوع لا يتخذ بيتاً إلا في موضع طيب مرتفع، ليسلم من سيل أو حافر، ثم لا يجعله إلا عند أكمة أو صخرة، فإذا أتى من باب دفع برأسه مارق وخرج.
اسمع يا من قد ضيق على نفسه الخناق في فعل المعاصي، فما أبقى لعذر موضعاً، يا مقهوراً بغلبة النفس صل عليها بسوط العزم، فإنها إن علمت جدك استأسرت لك، امنعها ملذوذ مباحها ليقع الصلح على ترك الحرام، فإذا ضجت لطلب المباح "فإمّا منّاً بعدُ وإمّا فداء" الدنيا والشيطان خارجيان، خارجان عليك خارجان عنك، فالنفس عدو مباطن، ومن آداب الجهاد "قاتِلوا الذي يَلونكم" ليس من بارز المحاربة كمن كمن، ما دامت النفس حية تسعى، فهي حية تسعى، أقل فعل لها تمزيق العمر بكف التبذير، كالخرقاء وجدت صوفاً، أخل بها في بيت الفكر ساعة، وانظر، هل هي معك أو عليك? نادها بلسان التذكرة، يا نفس ذهب عرش بلقيس، وبلي جمال شيرين، وتمزق فرش بوران، وبقي نسك رابعة، يا نفس صابري عطش الهجير يحصل الصوم، وتحزمي تحزم الأجير فإنما هو يوم:
يا هذا ذرات الوجود تستدعيك إلى الموجد، ورسايل العتاب على انقطاعك متصلة، فما هذا التوقف?
يا هذا! دبر دينك كما دبرت دنياك، لو علق بثوبك مسمار رجعت إلى وراء لتخلصه، هذا مسمار الإضرار قد تشبث بقلبك، فلو عدت إلى الندم خطوتين تخلصت، هيهات صبي الغفلة كلما حرك نام، يا مجنون الهوى أما مارستان العزلة، وقيد الحمية، ومعالجة سلاسل التقوى، ومرافقة بشر ومعروف، وإلا فمارستان جهنم، في أنكال العقوبة، وصحبة إبليس، لا بد من جرم عزم، يؤخذ بالحزم لينتصر من عايث الشره، سلطان الأزم، من رق لبكاء الطفل لم يقدر على فطامه، كل يوم تحضر المجلس يقف لك الشيطان على الباب، فإذا خرجت كما دخلت قال فديت من لا يفلح، وأسفي كم تطلب الخضر وما ترى إلا اليأس، ويحك اعرف ما ضاع منك، وابك بكاء من يدري قيمة الفايت، وصح في السحر
واستنشقت ريح الأسحار لأفاق قلبك المخمور وتخايلت قرب الأحباب أقمت المآتم على بعدك.
كان بعض السلف يقول في مناجاته: إلهي! إنما أبكي لما قسمت الأقسام. جعلت التفريط حظي فأنا أبكي على بختي.
أخواني. تعالوا نرق دمع تأسفنا على قبح تخلفنا، ونبعث مع قاصدي الحبيب رسالة محصر لعلنا باجر المصاب. إن لم يرجع المفقود، يا أرباب القلوب الضايعة "اذهبوا فتحسَّسوا من يوسف".
الفصل السابع
أخواني: ذهبت الأيام، وكتبت الآثام، وإنما ينفع الملام متيقظاً والسلام.
يا من صحيفته بالذنوب قد خفت، وموازينه لكثرة العيوب قد حفت، يا مستوطناً والمزعجات قد ذفت، لا تغتر بأغصان المنى وإن أورقت ورفت، فكأنك بها قد صوحت وجفت، أما رأيت أكفاً عن مطالبها قد كفت? أما شاهدت عرايس الأجساد إلى الإلحاد زفت? أما عاينت سطور الأجسام في كتب الأرجام قد أدرجت ولفت، أما أبصرت قبور القوم? في رقاع بقاع القاع قد صفت، من عرف تصرف الأيام لم يغفل الاستعداد، إن قرب المنية، ليضحك من بعد الأمنية، ما جرى عبد في عنان أمله إلا عثر في الطريق بأجله.
أخواني خلفنا نتقلب في ستة أسفار، إلى أن يستقر بنا المنزل، السفر الأول، سفر السلالة من الطين، والثاني سفر النطفة من الصلب، والثالث من البطون إلى الدنيا، والرابع، من الدنيا إلى القبور، والخامس من القبور إلى العرض، والسادس إلى منزل الإقامة، فقد قطعنا نصف الطريق، وما بعد أصعب.
أخواني. السنون مراحل، والشهور فراسخ، والأيام أميال، والأنفاس خطوات، والطاعات رؤس أموال، والمعاصي قطاع الطريق، والريح الجنة، والخسران النار، لهذا الخطب شمر المتقون عن سوق الجد في سوق المعاملة، كلما رأوا مراكب الحياة تخطف في بحر العمر شغلهم هول ما هم فيه عن التنزه في عجائب البحر، فما كان إلا قليل حتى قدموا من السفر فاعتنقتهم الراحة في طريق التلقي، فدخلوا بلد الوصل وقد حازوا ربح الدهر.