كيف ظهرت فكرة الجندي المجهول (3) وضع عسكري رهيب، ثم تردد نشيد المارسلييز في جوانب المعبد العظيم. إلى الخلود في باوحمل الجنود النعش، وخرجوا به ووضعوه على عربة مدفع، ثبتت عليه لافتة نحاسية صغيرة تحمل كلمتين، تحملان من جلال المعنى ما لا تحمله الخطب والكتب وهما "الجندي الفرنسي" وغطي النعش بالعلم الفرنسي وثبت عليه صليب البطولة لجنود فردان، وسار الموكب إلى المحطة ليمضي من ميدان القتال إلى المجد والخلود في باريس.. وحينما خرج الموكب من القلعة اندفعت أم ثكلى من بين الصفوف، وأقبلت تقبل النعش العزيز. أما بقية النعوش فقد نقلت إلى كنيسة (أوسوير دي دوامونت) ودفنت في قلب ميدان شهد من ويلات الحرب مصارع الأبطال ما يجعله من أمجد ميادين البطولة في تاريخ البشرية.
وصل الجندي المجهول إلى باريس مساء 11 نوفمبر 1918م، فحمله ستة من الجنود إلى ميدان "نفيروشيرو" ووضعوه أمام تمثال أسد بلفور. وكان قدماء المحاربين في انتظاره فأقاموا إلى جانبه بقية الليل، ولم يشرق الصبح حتى أقبلت جماعات الأرامل والثكالى، حاملات الزهور إلى أن غص الميدان كله بزهور الرحمة والغفران. وفي نفس الوقت كانت جماعات من الجنود تحمل إلى كنيسة في نفس الميدان قلب الزعيم الفرنسي "جامبتا" ذلك الرجل الذي لم ييأس من النصر في ساعات الأزمة السوداء حينما احتل الألمان باريس في سنة 1870، فظل يجاهد حتى حرر أرض وطنه. وحمل نعش الجندي المجهول، والنعش الذي يضم قلب "جامبتا" إلى مبنى "البانثيون"، حيث كان رئيس الجمهورية الفرنسية في انتظارهما، فكأن فرنسا أرادت أن تحتفل في هذا اليوم بذكرى الرجل الذي محا عن وطنه الهزيمة منذ خمسين سنة، فدحر الألمان ورفع علم النصر في أجواء فرنسا بعد نصف قرن من التضحية والبسالة والوطنية الصادقة. حمامة السلام وسار الموكب الرهيب في "البانثيون" إلى قوس النصر يتقدمه قدماء المحاربين حاملين أوسمة الشرف، تليهم جماعة من الضباط ذوي البسالة، يحملون الأعلام التي حاربوا في ظلالها، فكانت ممزقة اخترقها الرصاص في أكثر من موضع. وسارت خلفهم عربة الجندي المجهول، فلما استقر السير بها أمام قوس النصر أطلقت أربع حمامات، كل واحدة في ناحية لكي تحمل إلى كل نواحي فرنسا ذلك السلام العزيز الذي وهبه هذا الجندي المجهول بدمه. ثم تردد لحن الجيش في جوانب الميدان وأغنية "المارسلييز" ثم تقدم رئيس الجمهورية وحيا الجندي، وأعقبه أسقف باريس فصلى على رمز البطولة والتضحية، ثم أقبل الشعب زرافات يضع الزهور.
(* كاتب وباحث مصري وعضو اتحاد كتاب مصر )
اقرا حقيقة الجندي المجهول. كتابة وتأليف وواقع- للمحارب القديم المغربي أحمد بوتزاط عضو مجلة كريم روايال.