حقيقة الجندي المجهوللا تقتصر كلمة جندي على حامل السلاح. فكل من تجند للمصلحة العامة والوطن بصدق وأمانة وإخلاص ومسؤولية. وتطوع للإصلاح ومد العون والمساعدة من تلقاء نفسه, برغبة حسنة أكيدة وشعور طيب, وقلب سليم اتجاه الآخرين .هو جندي بالتأكيد
والجندي المجهول هو ذاك الإنسان البسيط الطبع الغريب الأطوار الذي يفعل الخير ويسدل المعروف بلا أنانية ولا غرور دون أن يظهر للعيان أو يدلي بنفسه أنه فاعله. كل له طريقته الخاصة , يؤدي بها رسالته لإيصالها للطرف الآخر بالأمانة الملقاة على عاتقه *كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته * باستثناء أن هناك أناس يحبون ويريدون أن يحمدوا بما لم يفعلوا...
ينبغي علينا أن نشعر ونقر ونعترف أيضا بألا مبالاة وعدم الاكتراث بالمسؤوليات وسوء آثارها في حياتنا. وأن نفهم جيدا أن جمال التعاون والعمل والمساهمات والتطوع لأجل الخير والصالح العام هو سر القوة بل القوة بعينها للفرد والجماعة.
فالرسام والموسيقي والصحفي والشاعر والأديب والمعلم ورجل الأمن... الخ. هم جنود ساهموا بتضحيات جسيمة وعطاءات كثيرة كان لها الفضل الأكبر في إيصال شعلة العلم والثقافة والأمن والانعتاق والحرية ,والتي لها تأثير كبير وقدرة شاملة في رسم الحياة الإنسانية.إن تربية الفرد وإعداده لأقصى حد ممكن تنمي قدراته العطائية بالمبادرة الذاتية والاعتماد على النفس لإخراجه من قوقعته وأفكاره الدفينة الماضي. ينتظر غيره لينتشله من براثن القهرأو ربما تجود عليه السماء بمعجزة تحقق أحلامه ومتمنياته .فرب كلمة طيبة وموعظة تخرج من فم رجل مسكين. يكون لها الفضل والأثر البليغ على تحريك العقول الجامدة وتوعيتها وإلهاب حماسها وتربيتها ودفعها إلى العمل إلى الإصلاح والتعاضد. للتعاون والتعايش أيضا. ما يفوق كثيرا اثر السلاح الذي يحمله الجندي المقاتل في ميدان الحرب. أفضل بكثير من رجل بخيل جمع مالا وعدده ولم ينفع به غيره ويرجوا المزيد مادا ذراعيه إلى السماء ليجد عند القدر الحسنى
ترى هل سمعت في يوم ما بالجندي المجهول وعرفته حق المعرفة ؟ انه اليوم يائس بائس مسكين, بات من خبر كان, وأضحى في طي النسيان؛ بعد أن وهن العظم منه وأصبح عاجزاً عن العمل والعطاء.قست عليه الظروف وأجبرته الأيام أن ينطو على نفسه وينزوي في مكان بعيد عن الناس, دون أن يسأل عنه احد أو يعرفه أحد؛ بلا شكر ولا امتنان و تكريم لشخصه النبيل *ومنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا
قديما كنت أقطن بأحد الحارة وسط أحياء شعبية أناسها غير مكترثين ولا مبالون.لا يولون للنظافة والبيئة قيمة و للقيم مسؤولية. بل انك لا تستطيع أن تمر من احد أزقة حارتنا إلا وأنفاسك تختنق ويكاد صدرك يتمزق ويأخذك السعال الشديد وربما القيء وأنت تمر بسرعة وهرولة واضعا طرف كمك أو يدك على أنفك من فرط الم الروائح النتنة الكريهة المنبعثة من الأزبال والقاذورات والقمامة المتراكمة هنا وهناك .دون تحمل أي فرد أو جهة وجماعة بمسؤولياتها .ففي ليلة من ليالي الشتاء الباردة والناس نيام.قام احد الرجال متسترا في جنح الظلام الدامس لرغبة وغاية ما في نفسه بتنظيف المكان من القمامة بطريقته الخاصة دون ان يشعر به احد أو رآه احد. لان الأبواب والنوافذ كانت محكمة الإغلاق كالعادة في فصل الشتاء ولا يجرؤ احد أي كان أن يفتح نافذته ويطل من خلالها خوفا أن تمسه نزلة من البرد لاأعرف من هو, ولا من أين أتى, ولو عرفت وعلى الأقل لأثنيت عليه وشكرته وقبلت يديه. انتهى الرجل الغريب من عمله الشاق المضني قبل صياح الديك , وأنفاسه تتوالى تكاد تتقطع وقد أخذ منه العياء والتعب كل مأخذ؛ العرق البارد يتصبب من جبينه وهو يمشي مطأطأ الرأس متثاقلا في مشيته بين الأشجار المتراصة على جنبات طول الطريق. والتي كانت تتمايل يمنة ويسرة من شدة هبوب الريح. إلى أن ابتلعته الأرض و توارى عن الأنظار ولم أعد أراه.كنت أراقبه من بعيد وأتتبعه بأحاسيسي الجياشة الفياضة بكل معاني الرحمة والحنو والعطف. والاعتراف بالجميل اتجاه الرجل الشهم النبيل الذي قل نظيره في زمننا الحاضر. انه الجندي المجهول ...
إن الجندي المجهول ليس هو ذلك القبر الذي يزار ولا النصب التذكاري الذي توضع عليه أكاليل الزهور وتعزف بجنبه سنفونيات النصر ولا حتى تلك الأقصوصة أو الحدوتة لذلك الجندي الذي حمل السلاح في ساحة شرفهم واستمات وقتل واقبر وزعموا بادعاءاتهم انه مجهولا واستنكروا هويته وقوميته وهم يعلمون. عرفوه ويعرفونه حق المعرفة انه العربي المسلم البطل الشجاع الذي أخذوه قهرا إلى هناك ودفع به إلى الصف الأول كدرع واق.في الجبهة الأولى من القتال.لصد النيران الملتهبة والموت عنهم.وتغنوا كثيرا بهذا الانتصار الباهر وجحدوا فضله على الآخرين .وسموهم بالغرباء الاقلة المجهولون بعد أن عرفهم التاريخ وسجل أسمائهم في كتاب بقلم من ذهب . سال عنهم أوليائهم وذويهم الفقراء وأهلهم الرعاة والفلاحون .وبضجة كبرى هزت أرجاء المعمور كله.ولازال سجلهم لم يطو بعد بل ظل حافلا باستنكارات كثيرة من طرف أهاليهم. وأمسى في طي التناسي والنسيان بالإصرار على التكتم والإنكار.وانه الشرف العظيم والاعتزاز الكبير بالفخر أن يكون هذا البطل منا من امتنا جادت به بطن فلاحة بأحد البوادي العربية المسلمة وأضحى رمزا للعمل والتضحيات والمثل العليا يضرب به الأمثال و يقتدى به.فأفضل الناس قطعان يسير بها صوت الرعاة ومن لم يمش يندثرأعطني الناي وغن وانس ما قلت وقلتاإنما النطق هباء فافدني ما فعلتاترى هل يكون الجندي جنديا مجهولا وهو يدافع عن وطنه و أمته و قوميته ? بالطبع لا. وألف لا. وهل يكون كذلك وهو مرغم بالإكراه ...للدود عن أوطان أخرى مختلفة تماما عن مقوماته ? ولم وضع رمز ذلك الوطن- العلم- على نعش الجندي المجهول مادام مجهولا و غير معروف عندهم ?ومن أعطيت له الجنسية لا يعد مجهولا.طلع فجر الصباح بنوره الوضاح على الأزقة والدروب الضيقة للحارة ولاح بعد رحيل الرجل الغريب والذي حمل معه آلاما وأحزانا وهموما أخرى أضافها إلى قاموس أحزانه.فتحت أبواب المنازل العتيقة وخرج منها بعض الشغيلين مسرعين في مشيتهم لم يلحظوا التغيير أو أن الوقت داهمهم وهم غير مبالين وكعادتهم وحتى للهواء المنعش الذي يطرق أنفاسهم وقد عم الأجواء كلها. في هذه الصبيحة المباركة شهدت الحارة حيوية ونشاطا لا عهد لها به إذ تجمع الناس جماعات وفرادى هنا وهناك يتكلمون وبثرثرة. منهم المتقاعسون والعاطلون. ففي الجماعة الأولى انضم إليهم صاحبهم والذي خرج متأخرا من بيته واضعا يديه في جيوبه وهو يقول : وبطريقته المعهودة ويتبعها بقهقهات عالية إني رايتهم وهم ينظفون ويكنسون.قاطعه احدهم قائلا :ماذا رأيت ? أجاب المتهور : كنت اطل من النافذة ليلا ورأيت العمال أصحاب النظافة يدفعون عربات وهم الذين نظفوا الحارة. تلقفه آخر : اسكت يا متهور ما عهدنا عليك صدقا.لأني لم انم مبكرا ولم اسمع حركة ولا ضجيجا بالحي.ودار بينهم نقاش وجدل حاد.و جماعة أخرى تقف في زاوية الزقاق يتكلمون وتسمع ضجيجهم من بعيد.قال قائل منهم وهو يصرخ في وجههم : ألا تؤدون أجرة عملي وتعبي وأجرة الرجال الذين استاجرتهم لتنظيف الحارة .وقال من كان معه : وهل استشرت معنا ? من خول لك ذلك إن الحي نظيف الآن ولم يكن متسخا كما تزعم أنت أليس كذلك. كان بالقرب منهم شيخ مسن يجلس على كرسي خشبي قصير ومتكئ على حائط هش ويداه المرتعشتين تمسك بعصا كعكازة يرتكز عليها في مشيته. يظهر على تقاسيم وجهه الشاحب المتجعد حكايات الماضي القديم .قام الشيخ الهرم من مكانه بصعوبة ومشقه منحني الظهر يمشي بخطوات ثقيلة فيها تعثر ووهن اتجاه الجماعة وتوقف عن المشي وكاد ان يسقط. أطال النظر في وجههم وأمعن جيدا بعينين وقد مسحت منهما بريق الطفولة والشباب والكهولة.وتكلم بصوت ضعيف متقطع :ألا تستحيون ? أليست فيكم مروءة ? ألا يوجد فيكم ولو رجل واحد ينصحكم وينهاكم ?تبا لكم من أطفال. غضب الشيخ غضبا شديدا والكل لزم الصمت مطأطئي الرؤوس بخجل وحياء من الشيخ الوقور الذي يحترمه الجميع والذي لم يبق لهم من تراث الماضي والتاريخ إلا هو. ازداد حجم الجماعة وانضم إليها كل أهل الحارة جميعا ملتفين حول الشيخ الوقور وهو يلوح بعصاه إلى أعلى ولا يكاد يرفعها قائلا :لم تسالون وتلحون في سؤالكم عمن قام بتنظيف الحارة ? ألا تفهمون بأنها رسالة موجهة إليكم. الهدف والغاية هو ماذا ستفعلون انتم غدا أو بعده ?هل ستنتظرون من يقوم لكم بعملكم ويقدم لكم المساعدات ?الم يان الوقت لتتحدوا وتعتمدوا على أنفسك انظروا إلى أنفسكم والى ما آل إليه حالكم لقد قضيت معكم عمرا يا أبنائي ومع آبائكم وأجدادكم وما رأيت قط قوما أمثالكم .هيا تصافحوا تسامحوا تعاشروا تراحموا تجاوروا .اعملوا صالحا. اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون.تأثر الجميع وبكوا وسالت الدموع وانسكبت على وجناتهم وارتموا في أحضان بعضهم البعض متسامحين. واصفح الصفح الجميل وادفع بالتي هي أحسن . تشاوروا في أموركم . إن الجد في الجد والحرمان في الكسل. كانت كلمات الشيخ الكبير دروسا وإرشادات ونصائح هزت أركان مشاعرهم اجتذبها من أعماقهم غيرت كل مكوناتهم إلى ما هو أفضل وأحسن. وعاش أصحاب القرية في وئام وسلام متآخين متضامنين متعاونين والفرحة تغمر قلوبهم. ودارت الأيام هز القرية خبر مفجع مؤلم رحيل الشيخ عبد السلام المعلم الوقور المحبوب إلى الرفيق الأعلى. كانت الصدمة كبيرة والفاجعة اكبر يتلقاها أهل القرية. أعلنوا الحداد وبكوا كثيرا وهيئوا لفقيدهم اكبر موكب جنائزي عرفته المنطقة. وجاء الناس من كل حدب وصوب وسار وراء الموكب جمع غفير من الناس غصت بهم المنطقة يرجون رضا الله ورضوانه. هناك على الربوة وبالقرب من أشجار الزيتون المطلة على الطريق التي يمر منها الموكب الحزين يقف الرجل الغريب وقفة صمت وسكون. وتأمل انه الجندي المجهول وعلامات البشر تظهر على محياه وعلا وجهه الوضاح ابتسامة عريضة وهو يقول : لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك...عشت كريما ومت كريما إلى الجنة يا معلمنا الحبيب اتبعنا الله بك مسلمين آمين) فرب كلمة طيبة وموعظة تخرج من فم رجل مسكين ... (نم قرير العين يا عبد ا لسلام فوطن العروبة سيبقى علمه خفاقا مرفرفا في الآفاق يشدوا بتقاسيم سنفونيات النصر للبطل العربي المسلم القوي الإيمان الجندي المجهول. انتهى بقلم : احمد بوتزاط محارب قديم
والجندي المجهول عربي الأصل شريف النفس تتجلى صفاته في العروة الوثقى ومكارم الأخلاق. وهذه الصفات لايختص بها إلا العرب.إلا العرب فقط