خطاب لجلالة الملك محمد الخامس رحمة الله عليه يشرح قضايا التعليم وتحقيق النهضة الثقافية
خير ما نستزيد به النعم، حمد الله الذي لم يزل سبحانه يفيض علينا جزيل احسانه، ويفعم لنا أنهار امتنانه، فلا نزال نتقلب في مظاهر لطفه، ونشاهد دلائل عطفه، في وسط أحوال تعلمون شدتها، وبحور أهوال عمت أقطار الدنيا جميعا.
وهل نجد برهانا على عناية الله بهذه الامة، أقوى من انتشار معالم دينه القويم، وأنفع من اشراق شموس الهداية بالتعليم؟ ازهرت رياض المعارف بعد ذبولها، وأشرقت أنوار الدين الحنيف بعد أفولها، ولا سعادة بدون علم، ولا يهتدي بغير رائده الرشيد. تعلمون الحالة التي وجدنا عليها التعليم بجامع القرويين، وماكان يهدده من الوقوع في هاوية الزوال: علماء يقلون، وطلبة يتشتتون، علوم تنقص بموت مزاوليها، وقلة ذات اليد تلزم المدرسين أن يهجروا العلم للارتزاق بمهن أخرى، لا مرشد خير يهدي الناس السبيل، ولا رائد رشد يورد من المعارف العذب السلسبيل، حتى أدركتنا العناية الربانية. فوجهنا همتنا لاصلاح الاحوال، وتدارك مهجة العلم مما كان يهدده من الاضمحلال، فأسسنا المجلس الاعلى للعلوم الاسلامية بأعتابها الشريفة، ليباشر تحت اشرافنا انشاء نظام جديد للمعهد القروي، فرتب مزاولة العلم في ثلاث طبقات ابتدائية وثانوية ونهائية، وحدد لكل طبقة ما يقرأ بها من العلوم كما حصر أمد سني الدراسة فيها، وعين المدرسين لكل واحدة منهما ورتب الرواتب الكافية، ثم عين مراقبا لسير الدروس، بعد ما حصر الفنون والكتب التي تقرأ بها، وأوجب امتحانا سنويا لترقي الطلبة من طبقة الى طبقة، وآخرين للمتخرجين من سادسة الثانوي وثالثة النهائي الديني والادبي، وجعل شهادتين لذلك يتمسك بهما أولئك المتخرجون، دليلا على تحصيلهم وتأهيلا لهم لنيل الوظائف الدينية أو المخزنية. ثم أحدثنا شهادة أخرى لمتخرجي رابعة الثانوي تخفيفا على طلاب البادية، ولم تقتصر عنايتنا على اصلاح المعنويات بل أمرنا بكل ما يستطاع من الاصلاح المادي، فقد شاهد الكل ما تم من اصلاح المدرسة المحمدية، وباشرنا في الاسبوع الفارط افتتاح خزانة الكتب وردهة اجتماع أعضاء المجلس التحسيني والمدرسين، وما يتبع ذلك من الامكنة الازمة لتسيير شؤون الكلية على نمط يضمن لها الحياة ويسهل لها الرقي، أما مدارس سكنى الطلبة، فلا تزال يدخل عليها الاصلاح المتواصل من انارة وغيرها، على أننا نرجو في ذلك السبيل مزيدا بعد مزيد، ثم صرنا نتابع هذا الرقي بنفسنا متعهدين باصلاح النظام كلما سنحت بذلك فرصة، قابلين ما يرد علينا من الآراء السديدة، فاتحين باب الاصلاح كلما سنحت فرصة للاصلاحات الجديدة.
ووجهنا كذلك جهودنا للنهوض بجامعة ابن يوسف، فشملتها عنايتنا حتى تم نظامها على نمط نظام القرويين من كل الوجوه. فصارت تعد بفضل الله بمستقبل زاهر منير، فأزهرت بذلك كله رياض العلوم الادبية والدينية، ضامنة بفضل الله السعادة الدنيوية والاخروية، على أننا لا نزال نسأل الله تيسير المزيد، وأملنا فيه سبحانه قوي وطيد. ثم انكم تعلمون أن من طبيعة الكون أن يستتبع الاصلاح اصلاحا، بحيث لا ينبغي للانسان أن يقف في طريق التحسين، بل المتعين هو مواصلة الجهود مادام المرء حيا ذلك ما نعدكم به، ولانزال بحول الله نجد في الصعود بشأن العلم وأهله حتى نصل الى أبعد الغايات، وتجني الامة كلها في حقول ما ينير الاذهان ألذ الثمرات، الا أنكم تعلمون أن يد الله مع الجماعة، وان المرء قليل بنفسه كثير باخوانه، فليوجه كل عنايته لبلوغ الامل، وليجعل نفسه مثال اقتداء في حلبة العمل، على أن لنا ولله المنة والحمد، أحسن أسوة في سلفنا المجيد، الذي امتاز بين الامم بالهداية والتسديد، فما من سبيل يوصل الى السعادة الا سلكه، ولاذخر من ذخائر العرفان الا ملكه، مهتديا في سبيل الفلاح، بكتاب رب العالمين، وراقيا مدارج النجاح بسنة سيد المرسلين، الى الحسنى يتسابقون، ومن حياض الرشد والسعادة يستقون، ويستمعون القول فيتبعون أحسنه، ويرون حسن السبيل، فيقتفون سننه، حتى لاحوا في سماء المعالي نجوما، وأعدوا لشياطين الضلال رجوما.
فعلى العلماء أن لا يكتفوا بالقاء الدروس الاعتيادية، بل ينبغي لكل واحد ان لا يزال يجتهد في المطالعة وتحسين طرق التدريس، ويتابع الترقي في أسلوب التعليم، غير قانع بما يتيسر عفوا، بل يوجب عليه اختصاصه بفن واحد أن يدأب على البحث والتنقيب، في كل وسيلة تسهل تبليغ العلم للطلبة، وأن يغتنم كل فرصة تسنح لتهذيب النشأ، اذ لا غاية كحسن التربية لتنمية المواهب الطبيعية، وتطهير الاخلاق الغريزية، ولينصحوا الطلبة بكل ما يحسن أحوالهم، ويزكي مئالهم، ويسهل عليهم عقبات المسير، ويقرب لهم وسائل التيسير، وينصحوا والدي الطلبة مهما استطاعوا الى ذلك سبيلا، فلن تزال النصيحة للعباد على قوة الايمان دليلا، ومن أنجع النصائح ان يحثوا الطلاب، على ملازمة التعلم الامد الطويل، فان ذلك من آكد شروط التحصيل. واننا لاجتهادهم شاكرون، ولاعمالهم في سبيل حفظ مهجة العلم حامدون فلسنا نعمل طريقا لتحسين أحوالهم الا سلكناه، ولا سبيلا يضمن لهم السعادة الا مهدناه، بحول الله القوي المعين. وعلى الطلبة أن يفعموا قلوبهم بمحبة أساتذتهم، وتعظيمهم وتحسين ظنهم بهم، فانهم مهذبوا أرواحهم، والمجدون لتيسير فلاحهم، وليعلموا أن رابطة المحبة بين الاساتذة والطلاب، من أمتن وسائل التحصيل وأنفع الاسباب، والذي نحث عليه جميع الاساتذة والطلبة، هو المحافظة على الوقت وملازمة ساعات التدريس، فلا يوتي النظام ثماره، اذا لم تلازموا اعتباره، فهو شرطه الاول وأساسه. ثم لما علمنا أن نظام القرويين لا يكمل الا اذا مهدت له السبل من الخارج ومدت اليه الوسائل من كل جانب، بدأنا الاصلاح من الاساس ليكون هيكله امتن، ووجهنا عنايتنا لاصلاح كتاتيب القرآن، اعتناء بحفظ كتاب الله وتجويده، فاصلح الموجود بكل ما يستطاع وأنشأنا مدرسة بفاس سميناها اسم نجلنا البار مولاي الحسن، وأخرى بالدار البيضاء باسم شقيقه الارضى مولاي عبد الله وأسس برنامجهما لحفظ كتاب الله ومزاولة التعليم الابتدائي ليكون وسيلة الى تخريج الطبقة الابتدائية منهما، ليمكنها الدخول الى ثانوي القرويين أو ابن يوسف، والامل هو أن ننشئ أمثالهما بكل مدن إيالتنا الشريفة، ليمكن بذلك أن يسقط كل الابتدائي من الجامعتين فلا يبقي فيهما الا الثانوي والنهائي، تسهيلا على طلبة العلم الشريف، وتيسرا لورودهم على حياضه، من كل النواحي المغربية، من غير أن يتحمل الاحداث مشاق التغرب في أول سني الدراسة، كما تأسست مدرسة ابتدائية بمكناس، بمناسبة حلول ركابنا الشريف بها، بمكن للمتخرجين منها أن يدخلوا ثانوي القرويين بأسهل الوسائل، وهناك أمر آخر نهتم به كل الاهتمام، وهو تعليم بناتنا وتثقيفهن لينشأن على سنن الهدى ويهذبن بما ينبغي حتى يتصفن بما يتعين أن تتصف به المرأة المسلمة، حتى تكون على بينة من الواجب عليها لله ولزوجها وبنيها ولبيتها، فلا يدرك ذلك بالاهمال، ولا يحصل عليه بمجرد الاتكال، ولذلك أمرنا أن يؤسس لتعليمهن برنامج يوافق تعاليم الدين الحنيف، يكون تحت اشرافنا ليلا يلحقه شطط ولا تحريف، ليضمن رقي الامة من كل الحيثيات، ويحفظ من الاهمال كما يحصن من الافات، ويتسنى لها تسابق الامم، من غير خروج على مبدأ دينها الاقوم، تتعلم ما ينفعها ويحييها، وتجتنب ما يؤخرها ويرديها، مقصدها العلم الحقيقي النافع، ورائدها الرشد البين الساطع، لا تحيد عن طريق الهدى، ولا تلوي على مهاوي الردى، وديننا الزكي الطاهر، يسر لا عسر، ومنهجه القويم الظاهر سهل لا قسر، هذا ولقد تعهدنا بالسعي الى المصلحة العامة في كل الحيثياث، والدأب وراء سعادة الامة بما يستطاع من الممهدات، لا نالو جهدا في النصيحة والارشاد، ولا نمل العمل في سبيل نفع العباد، راجين أن نصعد بالاوطان الى أوج الكمال، ليزدهر المغرب في الحال والمئال، فالله جل جلاله ولي التوفيق، يهدينا فيما يرضيه الى أحسن طريق، انه السميع العليم، ذو المنن الجواد الكريم.
ألقي بجامع القرويين
يوم 25 جمادى الثانية 1362 موافق 28 يونيو 1943