واقع الثورات العربية....بين المخاض والمؤامرات؟

عندما ينظر المرء ويتأمل في واقع الثورات العربية ويبحث عن أسابها ودواعيها يرى أنها ثورات عفوية لشعوب تحملت من الظلم والقهر ما لا تطيق.على يد أقلية حاكمة أمسكت بزمام الأمور بقبضة من حديد،وسخرت لدالك مؤسسات وأجهزة أشبه ما تكون بميلشيات هدفها الأول والآخر خدمة مصالح الطبقة الحاكمة ،فأصبح الأمن في مصطلح الحكام، أمن أنظمتهم وأمن المحتلين والغزاة، لا أمن الأمة والشعوب، فتم تغليب الأمن السياسي على الجنائي. مما أدى إلى انفجار هذه الشعوب.
ففي تونس التي اختار رئيسها الهروب بعد انفجار برميل البارود التونسي بانتحار الشاب البوعزيزي، معلنا بداية ثورة عفوية عجلت بالإطاحة بزعيم عصابة تونس ،فقلبت وضع النظام البنعلي الأمني والتنموي 'المعجزة' إلى عجز أمني وفشل دريع.
أما في مصر، فقد انهي عهد الفراعنة بتنحي الرئيس مبارك بعد استنفاده لجميع أساليب الخدع والمؤامرات، في معركة بدأت بالتغيير الشكلي، وانتهت بغزوة البعير في ميدان التحرير،الشيء الذي عجل بالإطاحة به، وإنجاح الثورة المصرية التي تتميز بطابعها الخاص لكون مصر مركز التوجيه والتأثير في العالم العربي الإسلامي،وهدا التغيير سيؤدي حتما إلى تداعيات هامة في الوطن العربي برمته.
ورغم التفاؤل السائد عقب نجاح الثورة المصرية ،إلا أن هناك من له نية مبيتة لإجهاضها ،خصوصا فلول النظام السابق الذين لا يدخرون جهدا في سبيل إذكاء النعرات الطائفية ،وأيضا بتورط من المجلس العسكري الذي يريد تسكين الثوار عوض الاستجابة لمطالبهم،ولكن إرادة الشباب كانت أكبر في الاستمرار حتى تحقيق أهداف الثورة والوصول إلى محاكمة رموز الفساد ،وانتخاب رئيس وبرلمان يعبر عن إرادة الشعب ،والحيلولة دون أن تفرز الأجواء المعكرة ديكتاتورا جديدا ومجلسا مزيفا،ولكي يتأكدوا أيضا من أن الجمال لن تعود إلى ميدان التحرير مرة أخرى .
أما في ليبيا فقد فضل 'ملك ملوك إفريقيا' القتال للحفاظ على عرش مملكة الهلوسة ،فرغم ادعاءاته بأنه مجرد قائد للثورة فإنه الآمر والناهي والحاكم المطلق في البلاد وكل السلطات تتمركز بيده،عبر تسخير مليشيات يرأسها أولاده وبعض الموثوقين، لخدمة هدف وحيد هو حفظ بقائه في السلطة وتوريتها لزيفه من بعده، فقاد عملية إحراق للشعب الليبي ،فوصل به الأمر الى استعمال الأسلحة الثقيلة ضد مدنيين بصدور عارية،فيما أشبه بإبادة جماعية في سبيل بقائه في السلطة،مدعوما بحرب إعلامية فاضحة ،غافلا عن أنه في عصر'الفيسبوك' 'والتويتر' والقنوات الفضائية المباشرة، وليس في زمن الجمل الذي استعمله مبارك في غزو ميدان التحرير بمصر، وضاربا بدالك كل المواثيق الدولية عرض الحائط ،فهذا التعنت سيؤدي لا محالة إلى تحركات تقودها دول امبريالية مدعومة من بعض المرتهنين للسيد الأمريكي، للتدخل في ليبيا وإنشاء عراق جديد في شمال إفريقيا سعيا لتخويف الشعوب من الثورات، وتحقيقا للأطماع الاستعمارية في المنطقة باسم حماية الشعب الليبي أولا .ثم محارب الإرهاب بعد دالك، لتكريس قواعد حقيقية للاحتلال والهيمنة الصهيوأمريكية ،ودلك بعد فشل الأنظمة التي كانت تمثلها في المنطقة.
أما النموذج المغربي المتميز بخطاب الملك محمد السادس حفظه الله، الذي وضع البلاد على سكة مرحلة جديدة، جعلت الرهان الأكبر يكمن في مدى قدرة الأحزاب والمجتمع المدني على تفعيل مضامين التوجيه الملكي، دون الإقتداء بالنموذج التونسي أو المصري أو حتى الليبي، فهذا التغيير يمكن اعتباره استثناءا مغربيا يصون ثوابت الأمة القائمة على الإسلام، والملكية الدستورية، والوحدة الوطنية.
لكن صراعات بعض الأحزاب فيما بينها لن يخدم الصالح العام، ولن يزيد الطين إلا بلة ، لأن هذه الصراعات المبنية على الدسائس والمؤامرات، لم تعد تحسب حسابا حتى للمصالح العليا للبلاد،وقد بدأت بميلاد الحزب السلطوي الجديد الذي يتبنى النموذج التونسي الفاشل ، بعيدا عن تحقيق العدالة والكرامة للشعب المغربي،فلإنجاح هذه المبادرة الملكية الخلاقة ،لابد من قطف رؤوس قد أينعت ، ومثلت على الدوام نموذجا استبداديا، عمل على تكريس الفساد المتفشي في محيط هرم السلطة في البلاد ،مما أدى إلى تخريب مقومات الهوية المغربية، وأساسات العمل السياسي بالمملكة.
وفي الختام لابد للعاقل أن يجزم بأن الإصلاح مطلب إنساني، وهو مبدأ تفعيل النظام الأساسي للحكم ،وعملية يجب أن تستمر في كل الأزمنة، ومسؤولية الجميع ،حاكمين ومحكومين ،من أجل إقامة العدل والمساواة حفظا للحقوق والمكتسبات، وحفاظا على الاستقرار والأمن والأمان،لكن ليس بالديكتاتورية والتسلط على الرقاب، مما يؤدي حتما إلى الخروج عن الطاعة، بعد أن تسود الخيانة ويعم الفساد وتكم الأفواه، مما ينتج عنه من هدم للبناء وهدر للطاقات والمكتسبات ، بل يجب أن يكون الإصلاح في ضل نظام مستقر ومرن، مرونة النخلة الباسقة، التي يرفرف سعفها في السماء، راسخة الجذور، ممتدة العروق، تميل شيئا فشيئا، متجاوبة مع قوة الرياح ،دون تحجر ولا خضوع مطلق،ودالك من أجل النهوض بالأمة العربية الإسلامية ،وإنتاج جيل جديد يفخر بانتمائه الإسلامي، ويعمل لعادة التضامن والوحدة بين المسلمين من جميع الأطياف،سعيا لكبح جموح المخططات الاستعمارية الجديدة،الرامية إلى سرقة أوطاننا وتقسيمها.
نسأل الله تعالى أن يحفظنا في ديننا وأوطاننا وأن يديم علينا نعمة الأمن والأمان وأن يحفظ أمتنا، ويرد كيد الكائدين إنه نعم المولى ونعم النصير.
الكاتب :مبارك السمان