عالمية الدروس الحسنية
الشيخ أبو الحسن الندوي
لعل أول ما يلفت انتباه الناظر في المسار التاريخي للدروس الحسنية الرمضانية هو استقطابها للعديد من العلماء المنحدرين من شتى أنحاء العالم، ممن اختلفت ألسنتهم وألوانهم بينما ائتلفت قلوبهم على عقيدة التوحيد ويمموا جميعا نحو قبلة واحدة. منهم أعلام في فقه الشريعة، وجهابذة في الفكر الإسلامي، ورجال دعوة ذاع صيتهم حتى سارت بذكرهم الركبان.
ماذا عسى المرء أن يقول بشأن سلسلة دروس تناوب على إلقائها نخبة من ورثة الأنبياء الأفاضل من حجم العلامة المجدد أبي الأعلى المودودي، والشيخ أبي الحسن الندوي من الهند، والإمام موسى الصدر من لبنان، والشيخ محمد متولي الشعراوي من مصر، والشيخ محمد سعيد رمضان البوطي من سوريا، والشيخ محمد الحبيب بلخوجة الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي بجدة، والشيخ عبد الله بن عبد المحسن التركي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي، والدكتور عصام البشير من السودان، والدكتور طه جابر العلواني من أمريكا...؟ والقائمة طويلة.
أسماء كفيلة بإثقال ميزان هذه المجالس العلمية وإحلالها المكانة التي تستحقها. حتى إن رئيس دولة المالديف "مأمون عبد القيوم" قد حرص على أن يضم اسمه إلى هذه الكوكبة من العلماء من خلال نيل شرف إلقاء درس في سلسلة الدروس الحسنية حول موضوع "الاجتهاد وضرورته الملحة لمعالجة القضايا المعاصرة" بتاريخ 19 رمضان 1413 هجرية، الموافق لـ13 مارس 1993.
ولعل ما زاد سمة العالمية هذه دلالة أعمق هي انفتاح الدروس على كافة المذاهب الإسلامية المعتبرة، سنية كانت أم شيعية أم إباضية؛ بل إنها شكلت قبلة مفضلة للعديد من مشايخ الطرق الصوفية. الشيء الذي أكسبها أهلية غير عادية للإسهام في لملمة الصف الإسلامي المترهل بفعل عوامل الهدم الكثيرة التي أثخنت جسم الأمة بالجراح، وعملت على إذكاء نزوعات الفرقة والشقاق، ودأبت على نصب الحواجز النفسية بين مكونات الجسد الواحد التي بات بأسها بينها شديدا بعد أن استبدلت لغة الشجار بنهج الحوار.
نقطة أخرى جديرة بالإشادة في هذا الصدد، هي تلكم المتعلقة بالحضور اللافت لممثلي الأقليات الإسلامية في مختلف أنحاء المعمور؛ وهو ما يجعل المناسبة مواتية للاطلاع على أحوالهم والتعرف على حاجياتهم وتبين الظروف التي يمارسون فيها شعائرهم الدينية وكيف هي فرص الدعوة في بلدانهم. وهنا لا بد من الإشارة إلى المبادرة الملكية الطيبة القاضية بترجمة سلسلة الدروس الحسنية إلى اللغات العالمية الرئيسة الثلاث: الإنجليزية والإسبانية والفرنسية، وبالتالي طبعها ونشرها مترجمة إسهاما من الدولة المغربية في إغناء المكتبات الإسلامية في البلاد الغربية بمادة علمية رصينة تشكل ذخيرة دعوية نفيسة.
قرارات تاريخية اتخذت في أجواء الدروس الحسنية
عديدة هي القرارات التي خرجت من رحم الدروس الحسنية، ونالت حظها من فيوضاتها الربانية، وحسبنا الإشارة في هذا المقام إلى بعض من أهم تلك القرارات. حيث نجد في مقدمتها قرار الملك الراحل بإنشاء دار الحديث الحسنية سنة 1964، وهي المؤسسة التي أريد لها أن تضطلع بمهمة تخريج علماء مقتدرين في كافة العلوم الشرعية.
ومنها أيضا قراره التاريخي الذي أعلن عنه في ختام درس ألقاه في النصف الثاني من عقد الستينيات، والمتعلق بإجبارية الصلاة في المدارس الابتدائية والثانوية والعليا، وكذلك قراره بالمحافظة على اللغة العربية والحضارة الإسلامية من خلال إدخال مادة الحضارة والفكر الإسلاميين في برنامج ومناهج التعليم العالي، واعتبارها مادة أساسية يتوقف نجاح الطالب على نجاحه فيها؛ بيد أننا ما زلنا نجهل الأسباب والدواعي التي أملت التوقف عن تطبيقهما.
وفي خضم الاستظلال بنفحات هذه الدروس الرمضانية، رأت المسيرة القرآنية النور بقرار من الملك الحسن الثاني الذي أعطى تعليماته بختم القرآن الكريم خلال شهر رمضان عبر موجات الإذاعة ومن خلال شاشة التلفزة. حيث يتم كل سنة تسجيل تلاوة آي الذكر الحكيم بصوت أحد المقرئين المتمكنين، وطبعا برواية ورش المعتمدة في بلاد المغرب. وسجلت الختمة الأولى بصوت القارئ الشيخ عبد الحميد إحساين -رحمه الله- أما الثانية فبصوت القارئ الشهير الشيخ عبد الباسط عبد الصمد -رحمه الله- في الثمانينيات.
ومن يُمن هذه السنة الحسنة أنها تمكن العديد من المواطنين الذين لم يتسن لهم الإلمام بالقراءة والكتابة، من فرصة نيل ثواب ختم القرآن الكريم خلال شهر الصيام عبر الاستماع إلى أصوات جميلة وهي تتغنى بالوحي المنزل.
مواقف مثيرة شهدتها الدروس الحسنية
ما أزال أذكر ما قاله العلامة الشهيد الدكتور صبحي الصالح، في ختام أحد دروسه الرمضانية، موصيا الملك الحسن الثاني، وقد نزل ضيفا عنده في قلب القصر الفاخر وبشهود جموع الحشم والخدم وأمام ملايين المشاهدين عبر الشاشة والمستمعين من خلال أثير الإذاعة، بعبارة: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)، وهي نفسها الوصية التي أوصى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
وحدث يوم الجمعة 15 رمضان 1409 الموافق 21 إبريل 1989م، أن ألقى العالم الأمريكي الأستاذ خالد عبد الهادي يحيى، أستاذ الدين والتاريخ بجامعة بوسطن بالولايات المتحدة الأمريكية، درسا في موضوع "الهدف من الوجود" انطلاقا من قوله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} (الذاريات: 156). وكانت قبل ذلك أسماع الحاضرين قد شنفت بتلاوة طيبة مباركة لآي من الذكر الحكيم بصوت أخاذ لشاب مسلم قدم من إحدى جمهوريات الاتحاد السوفيتي آنذاك، وقد دفعت هذه الواقعة المستغربة، في ظل استمرار أجواء الحرب الباردة، الملك الحسن الثاني إلى التعليق بقوله: "قبل الختم أريد أن أشير إلى ظاهرة لم تكن في الحسبان ولم تكن من جملة مخططاتنا، ذلك أن موسم رمضان، شهر القرآن، شهر الوحي، أراد الله سبحانه وتعالى أن يجتمع هنا أشخاص من قارات مختلفة، ولغات مختلفة، وألوان مختلفة. وأراد الله أن نسمع في يوم واحد مقرئا محترما جيدا طيبا من الاتحاد السوفيتي، وأن ننصت إلى محاضر شاب غيور كله حماس من الولايات المتحدة. أظن أن هذا التواجد سيجعلنا نعطي للديانة الإسلامية وللدين الحنيف وسنة النبي صلى الله عليه وسلم تعريفا آخر، وهو أن نقول: إن الإسلام أصبح مدرسة سلوك سياسي، ولا أقول تعايش، لأن التعايش فيه شيء من الإرغام، وشيء من المضض. الإنسان يتعايش لأنه لا يمكنه أن يفعل شيئا آخر". [الدروس الحسنية لعام 1409، ص: 5].
وبعد ذلك التاريخ بثلاثة أيام، وبالضبط يوم الإثنين 18 رمضان 1409هـ/ 24 إبريل 1989م، ألقى الشيخ الحسن بن الصديق، من علماء المغرب، درسا في موضوع "الدين بين الاتباع والابتداع"، حيث تناول فيه بعض نماذج البدع المنهي عنها والتي استشرت في عصرنا الحالي، ومن ضمنها العقود التي تبرم وقت صلاة الجمعة، مذكرا بقوله تعالى في سورة الجمعة (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع)، إذ قال معلقا: "فإذا تشاغل عنها مسلم ببيع، أو بأي شيء من الأشياء، كان ذلك العقد وذلك البيع باطلا ولاغيا ولا يترتب عليه أثره، وهكذا". حينها تدخل الملك مغاضبا: "أتمم الآية يا فقيه"، فتلا الشيخ قوله تعالى: (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله، واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون). فعاود الملك المقاطعة على غير عادته، منبها الشيخ إلى أنه مطالب بإتمام الدرس في غضون خمس دقائق ليس إلا!.
وقد قدر لي أن أتابع لحظات هذا المشهد المثير مباشرة عبر التلفزيون؛ والواقع أن حضور البديهة الذي كان يتمتع به الملك الراحل هو الذي جعله يفطن -في غفلة من باقي المسئولين- إلى أن الشيخ الحسن بن الصديق كان يلمح إلى بطلان معاهدة اتحاد المغرب العربي التي أبرمت في 17 فبراير من السنة نفسها بمدينة مراكش، بالنظر إلى أن مراسيم التوقيع عليها تمت في وقت صلاة الجمعة التي لم يؤدِّها قادة البلدان الخمس إلا قبيل أذان العصر بنصف ساعة أو يزيد قليلا.
وكان من نتيجة ذلك أن مُنع الشيخ لاحقا من الإجابة عن استفسارات المواطنين عن أمور دينهم في برنامج "ركن المفتي" الذي كان يُبَث مساء كل جمعة على شاشة التلفزة المغربية. مما اضطره إلى الهجرة إلى الديار البلجيكية، قبل أن يصفح عنه الملك ويدعوه مجددا لإلقاء الدروس سنوات بعد ذلك.
قالوا عن الدروس الحسنية الرمضانية
كثيرة هي الشهادات التي قيلت في معرض الإشادة بالدروس الحسنية، بيد أننا سنكتفي بإيراد البعض منها فقط في نطاق ما يمكن أن يفي بالغرض ويحقق المطلوب. خصوصا إذا كانت صادرة عن أناس مشهود لهم بالعلم والفضل والصدع بكلمة الحق، حتى وإن استثقلوا اجتراع مرارتها، أناس وطَّنوا أنفسهم على ازدراء كل أنواع التملق والتزلف، وأبوا عليها إلا الاستنكاف عن قلب حقائق الأمور ونزهوها عن الإدلاء بشهادة الزور.
فضيلة العلامة محمد طه الصابونجي، مفتي طرابلس، يقول في حق هذه الدروس الرمضانية: "هي سنة حسنة، وموسم من مواسم الخير، الذي تفيض فيه بركات رمضان، وتشملنا الفيوضات الرحمانية بكريم العطاء والاصطفاء، فجزى الله من دعا إليها، وخط خطتها، جلالة الملك الحسن الثاني".
ويقول فضيلة الشيخ الحاج أحمد فودوفاديكا من علماء غينيا: "هذه الدروس الحسنية التي تكون في هذا الشهر، أكبر مدرسة على وجه الأرض تفجر ينابيع العلوم، وتتيح للعلماء بمختلف أقطار المعمور أن يلتقوا في صفاء ومودة، ويتعارفوا، ويتبادلوا الآراء. ولا يغيب عن بال أحد ما ينتج عن ذلك من النفع الكبير، لازدهار الإسلام في العالم".
الشيخ طلعت تاج الدين
أما العلامة طلعت تاج الدين، من علماء روسيا، فقد عبر عن انطباعه بالقول: "أول مرة في حياتي وحياة زميلي، اشتركنا في الدروس الحسنية وأول ما أعجبنا المظهر النوراني والرباني، حيث يجلس العالم المحاضر على المنبر، ويجلس جلالة الملك، أمير المؤمنين، على بساط أخضر وحوله أهل الحل والعقد بالمملكة المغربية، ويستمعون في إجلال وخشوع".
وبالنسبة لسماحة الشيخ عبد الله غوشة، قاضي القضاة ورئيس الهيئة العلمية الإسلامية بالقدس، فيقول: "السنة التي نهجها جلالة الملك الحسن الثاني في استماعه للأحاديث الدينية، خلال أيام شهر رمضان الفضيل سنة حميدة -هي سنة آبائه وأجداده- تعيد إلينا ذكرى المجالس العلمية التي كانت تعقد في أيام المسلمين الأولى، بحضور الخلفاء، والملوك والأمراء".
وبحسب العلامة حمد عبيد الكبيسي، من علماء العراق: "هي فرصة ميمونة لرؤية التاريخ المكتوب تاريخا ماثلا للعيان، فإن لهذا اللقاء الذي استنه صاحب الجلالة الحسن الثاني معنى كبيرا لا يند عن خاطر ولا يلتوي على ذهن، ذلك أن المنبر الذي يذكر عليه اسم الله في المسجد لا يزال هو المكان الذي ينصع فيه وجه المجد في قصور الملوك. وأن المحراب الذي يقوم فيه الدين في بيوت الله لا يزال هو الركن الذي يسطع منه نور الحق في بيوت الخلفاء، وأن الإسلام الذي ألف بين قلوب لا تأتلف في أول الأمر لا يزال هو المنهج الذي يجمع الشمل ويوحد الكلمة. فلصاحب الجلالة الحسن الثاني أجر هذه السنة الحسنة التي تعيد إلى الأذهان عز القرون الماضية، يوم كانت مجالس الخلفاء في الصدر الأول والأوسط تحفل بالعلم أكثر مما تحتفي بالسياسة، وتوسع للأدب أكثر مما تتسع للحكم، يوم كان الخليفة يعتمد في قيادة الأمة على سلطان الدين وشرف النسب لا على سطوة القوة وأسباب العصف، يصل علمه بعلم العلماء، ويتصل أدبه بأدب الأدباء".
ونختم بشهادة قيمة أدلى بها العلامة الشيخ عبد الفتاح أبوغدة بحضرة الملك الراحل الحسن الثاني، حيث خاطبه بقوله: "لقد تفردتم في هذا العصر، من بين الملوك والرؤساء، بهذه السنة السنية وهذا الفضل الفريد؛ وتفردتم أيضا بأنكم حين تجمعون العلماء تجمعونهم لإعزازهم ورفع مقامهم وإعلاء شأنهم، تجمعونهم وتجلسون بين أيديهم متواضعين مصغين مجلين معتقدين بقداسة ما يقولون من كتاب وسنة وفكر إسلامي صحيح، سلفي أو خلفي، فأنتم بينهم في مقام الشهود لهم بصدق ما ينقلون وحق ما يقولون، وقد تنكر من تنكر للكتاب والسنة ممن أرى ذكرهم في هذا المجلس الطاهر من باب ذكر المنكر، وقد حفظت عنه مجالسكم المنيفة ومسامعكم الشريفة، فليس فضلكم مقصورا على جمع العلماء من أقطار الأرض فقط بل جمعهم من أقطار الأرض وبمشاركتكم لهم بالاعتقاد بالكتاب والسنة كما يعتقدون".
الدروس الحسنية في العهد الجديد
الملك محمد السادس
خيرا فعل الملك محمد السادس عندما أبدى تشبثه بسنة الدروس الحسنية وعمل على ضمان استمراريتها؛ ولعل أهم ما أضافه العهد الجديد لهذه المجالس الرمضانية هو انفتاحه لأول مرة على رموز الحركة الإسلامية بالمغرب، حيث دعا بداية الدكتور أحمد الريسوني، وقت كان رئيسا لحركة التوحيد والإصلاح، لإلقاء الدرس بين يدي الملك الشاب. كما سنحت الفرصة في وقت لاحق أمام الدكتور فريد الأنصاري للإدلاء بدلوه في هذه السلسلة الرمضانية.
ويبقى أهم تحول شهدته الدروس الحسنية في هذا العهد هو ذاك المتمثل في إشراك العنصر النسوي في سابقة هي الأولى من نوعها على امتداد تاريخ هذه الدروس، حيث انبرت الدكتورة رجاء الناجي المكاوي، الأستاذة بكلية الحقوق التابعة لجامعة محمد الخامس، لإلقاء درس قيم حول النظام الأسري الإسلامي مقارنة بما عليه الوضع الأسري في المجتمعات الغربية.
ومع ذلك، فقد عرفت الدروس الحسنية في ظل العهد الجديد تراجعا ملحوظا، إن على مستوى عدد الدروس الذي لم يتجاوز في السنة الماضية ستة دروس، أو على مستوى المكانة العلمية لبعض المحاضرين غير المؤهلين أصلا لاعتلاء منبر بذلك الزخم التاريخي الكبير.
استشراف لمستقبل أفضل
أملنا كبير في أن تتحول الدروس الحسنية إلى مؤسسة قائمة الذات تبلور مؤتمرا عالميا لخيرة علماء الأمة في غرة شهر القرآن، وتشكل مناسبة لتحقيق مقصود التواصل، وترسيخ لغة الحوار والجدال بالتي هي أحسن بين مختلف ألوان الطيف الإسلامي، ومحطة للتعرف عن قرب على هموم وانشغالات الأقليات الإسلامية المتناثرة على امتداد أرجاء المعمورة؛ ولمَ لا تتنافس باقي البلدان الإسلامية في استلهام هذه التجربة المتفردة والعمل على تطويرها خدمة للإسلام والمسلمين؟.
على أن أجر هذه السنة الحسنة وأجر من عمل بها سيظلان مكفولين لصاحب الفضل في خروجها إلى حيز الوجود أول مرة. والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.