ص : 1
من هو الإنسان
يَقِفُ الإنسانُ مُتألِّماً مذهولاً وهو يَتأمَّلُ هذه الأرض الشَّقية البائسة . كم من أحقابٍ وعُصورٍ مديدَةٍ مَضتْ وانقَضتْ والإنسانُ يَعيثُ في الأرضِ فساداً ، قَتلاً
وذَبحاً ، تدميراً وتَخريباً . وعندما نتخيَّلُ كم منَ الدِّماءِ سالتْ وامتزَجَتْ بهذا التُراب وبكلِّ ما رافقَها من آلامٍ ودموعٍ وأنين ، نُصابُ باليأسِ والإحباطِ ،
وبالإشْمئزازِ منَ الإنسانِ والإنسانيَّةِ .
من هو هذا الإنسانُ وما هي كينونتُهُ ؟ وكيف يَرتضي أن يَكونَ أشَرَّ من الشَّرِّ
وأشَدَّ ظُلمةً من الظَّلامِ وأكثَرَ تَوحُّشاً من أوحَشِ الوحوشِ ؟ من هو ولماذا كلُّ هذا
الشَّرِّ في أعماقِهِ ؟ ما غايَتُهُ وقصدُهُ ودافِعُهُ الخفيُّ من وراءِ تدميرِ الأرضِ وإفناءِ
ذاتِهِ ؟ كم من شُعوبٍ أفنتْ بعضَها ، وشُعوبٍ أبادتْ غيرَها ثمَّ جاءَ من يُبيدُها ويَمحوها من على وجهِ الأرضِ ؛ كم من حروبٍ مُدمِّرةٍ قامتْ على مفاهيمَ وشِعاراتٍ كالقوميَّةِ والوطنيَّةِ والمَذْهبيَّةِ أو على أسبابٍ أُخرى كثيرَةٍ ، فدمَّرَتْ
وأبادتْ وأهلَكَتْ الشُّعوبَ وأحرَقَتْ وجْهَ الأرضِ حتَّى أصبحَ تاريخُ الإنسانِ والأرضِ ملْحمَة حروبٍ وشَرٍّ وفَسادٍ ...مَلحَمة دِماءٍ وأوجاعٍ ودموع .
ألمْ يَشْبعِ الإنسانُ بعد من دَمِ الإنسان ؟ ألمْ ترتوِ الأرضُ من سيولِ الدِّماءِ الَّتي سالتْ عليها ؟ ألمْ تَتحرَّكْ مشاعِرُها شَفقةً ورحْمةً وهي تُصيخُ لأنينِ وآهاتِ الأشْلاءِ
البشَريَّةِ وهي تَتخَبَّطُ على ثراها ؟ ولِماذا ومن أجلِ ماذا كُلُّ هذا الشَّرِّ والتَّدميرِ والفَسادِ ؟ وعلى ماذا يَتقاتَلُ النَّاسُ ويتَناهشونَ ؟
أمنْ أجلِ مفاهيم وشِعاراتٍ مُتغيِّرَةٍ مُتَبدِّلةٍ لا تَثْبُتُ من جيلٍ لجيل ولا يَقومُ على صحَّةِ وأحقيَّةِ دَيمومتِها دَليل ؟
ص: 2
أم من أجلِ مفاهيمَ دينيَّةٍ ومذهبيَّةٍ ؟ وقد مرَّتْ على البشَريَّةِ ألوفُ الألوفِ من الدياناتِ والمذاهبِ كلُّها بادتْ واندثرتْ ؟
ألم يَحُنِ الوقتُ بعد ليتعلَّمَ الإنسانُ ، وقد أصبحَ التاريحُ اليومَ وبكلِّ أغوارهِ وحيثيَّاتِهِ مُشاهَداً ومكشوفاً على شاشةٍ صغيرة ؟ ألم يتعلَّمْ من التاريخ أنه لا
يوجدُ شيءٌ ثابتٌ ومُطلَقُ الصحَّةِ يستحِقُّ أن تتقاتلَ وتتحاربَ وتتفانى الشُّعوبُ
والأفرادُ من أجلِهِ ؟
وهل دافعُ العدوانيَّةِ في الإنسانِ غريزةٌ من جِبلتِهِ وطبيعتِهِ ؟ أم أنَّهُ مُكتَسَبٌ
بفعلِ العادةِ والتربيةِ ؟
هناك من يدَّعون الإيمانَ بإلهٍ خالقٍ حيٍّ ويتناهشونَ بعضَهم دِفاعاً عن هذا
الإله وعن صورَتِهِ في عقولهم وعن مفاهيمهم عنهُ .... فإذا كان هذا الإله
خالقَ الكونِ الواحدِ الأحدِ فمن يتجاسرُ أو يحقُّ له أن يقوقعَ هذا الإله وأن
يحصرَه في جعبتِه الخاصة ؟؟؟
أليس هو خالقُ الكونِ وجميع البرايا عيالُه وأبناؤُه ؟؟؟وهل هو بحاجةٍ لمن يدافعُ
عنه ويصون حدودَ كرامتِه ؟؟؟
فالأديانُ والمذاهبُ ، وعبر التاريخِ الطويل ، ليست سوى رؤى واستشفافات
ومحاولات بشرية متفاوتة المستويات لفهم هذا الخالق والتقربِ منه ؛ فلا يحقُّ
لأحدٍ الإدعاءَ باحتكارِ فهمِه وبعصمةِ مفهومِه عنه .....
فكلُّ محاولةٍ للدفاعِ عن مفهومٍ ما لهذا الخالق وخاصةً بالوسائلِ القهريةِ العنيفة
إنما هي كفرٌ به وإهانةٌ له وتصغيرٌ وتحجيمٌ لكمالِه .
حاشا لكمالِ الله أن يحتاجَ لمن يدافعُ عنه ويحميهِ ؛ هو بحاجةٍ فقط ليتلمَّسَ الناسُ
حقيقةَ وجوده فيتعرفون عليه ويتقرَّبون منه ويحبونه وبالتالي يحبون بعضهم
بعضاً .
ومن هذه المقاربةِ المنطقيَّةِ نستطيعُ أن نخلصَ إلى نتيجةٍ جوهريةٍ ومريرةٍ في آنٍ معاً وهي أنَّ جميعَ الخلافاتِ البشريةِ وما تسبِّبُه من حروبٍ ودمارٍ إنَّما تنشأُ وتنبثقُ من النَّفسِ الإنسانيَّةِ المنغلقةِ على ذاتِها، المتطرِّفةِ بأنانيَّتِها وأطماعِها وبمفهومها العبثيِّ عن الكونِ وخالقِه ؛ فمفهومُ الإنسانِ عن الكونِ لم يتطوَّرْ منذ طفولته الأولى.
ومع الأسف الشديد كان الكثير من علماءِ الإجتماعِ والقيِّمين على الفكر الإنساني يعتبرون الدافع العدواني غريزة من جبلةِ الإنسان ، وهكذا يبرِّرونه ويمنطقون الحروبَ على هواهم ومصالِحِ سادتهم ... حتى أصبحت الحربُ شبه عقيدةٍ وحتى في كثيرٍ من الأديان ، وهنا الويلُ الأعظم أن تلتصقَ مفاهيمُنا الشرِّيرةُ بخالِقِ الكون؛ فهو هكذا خلقنا ونحن جبلتُهُ وصنعُ يديه ... ثم يتفنَّنون ويُبدعون الحجج
للدفاعِ عن الحروب وفوائِد الحروب .
فلو نظرَ الإنسانُ إلى الكونِ بروحِ المسؤوليةِ التي تجعلُه يشاركُ الخالقَ بالعملِ فيه تفعيلاً وتطويراً لما أحسَّ بالإنفصامِ عنه وبالغربةِ فيه ... ولو نظرَ إلى نفسِه كمرآةٍ للآخرِ وامتدادٍ له لما سمح لنفسِه بقتلِ هذا الآخر أملاً باحتكارِ الكونِ لذاتِه .فهو لا يمثِّلُ شيئاً بدون هذا الآخر .. والكون بدون الإنسانِ العاقل لا يساوي شيئاً .
لو حاولَ الإنسانُ أن يفهمَ هذه الحقيقةِ لعملَ على تربيةِ وتهذيبِ دافع العدوان في ذاتِه .
فدافعُ العدوان ليس من جبلةِ الإنسان ، ودليلنا القاطع على هذا أن تاريخَ الإنسانيةِ
يسجِّلُ آلاف النُّفوسِ التي سمتْ إلى أعلى مراتب القداسةِ والنُّورانيَّةِ والتَّضحيةِ بالذاتِ في سبيل الآخر وخدمة له .
فلو كان هذا الدَّافعُ من جبلةِ وغريزةِ الإنسانِ لما استطاعَ أحدٌ الإفلات منه ...
ولكن قهر الآلاف لهذا الدافع وتحويله إلى قداسةٍ ونورانيَّةٍ دليلٌ على أنه مكتسبٌ
ودخيلٌ على الإنسان .
فمسؤولية القيِّمين على الإنسانيةِ أن يوظِّفوا ويسخِّروا جميع الشِّعارات ، سياسية
كانت أم اجتماعية أم دينية أم مذهبية لمصلحة الإنسان وسعادته لأنه سيدُ الكونِ
ومن أجله تكُّثفَ الكون وتكوَّن . فما قيمة الكون بدون الإنسان ؟؟؟ أليس هو العقلُ المفكرُ الذي يعطي الكون معنى وجوده ؟؟؟ فبدون العقل الإنساني لا معنى
للوجود . وإذا كان الوجودُ موجوداً في ذاتِه فالعقلُ الإنسانيُ يعطي معنى وقيمة
لهذا الوجود .
مشكلةُ الإنسان أنه لا يقيِّم ويقدِّرُ ذاتَه حقَّ التقييم والتقدير . فهو لا يزال رضيعاً
يدبُّ دبيباً على طريقِ معرفةِ ذاتِه . وعندما يعي ويكتشفُ ذاتَه سينذهلُ ويندهشُ
لأنه سيكتشفُ أن العقلَ الإلهي لم يوجِدْ الكون المادي إلاَّ لتظهرَ وتتجلَّى فيه الذَّراتِ الروحية الإنسانية والتي هي منبثقة منه ولها مهام عبادة الله والعمل مع الخالق
لتطوير الكون ودفعه في طريق الكمال .
فإلى متى سيظلُّ يجهل الإنسانُ أنه كائنٌ روحيٌّ عاقلٌ وخالدٌ ؟؟؟ وإذا آمن بهذه الحقيقةِ فكم يظلُّ بعيداً عن أن يعيشَها بأحاسيسِه ومشاعِرِه ؟
من يؤمنُ بالله وبأن في الإنسان قبسٌ من الله كيف يسمح لنفسِه أن يقتلَ أو يهينَ
الذرَّة الإلهية الموجودة في الآخر ؟؟؟
ألسنا كلُّنا نحملُ في ذواتِنا ذرَّات من هذا الإله ؟؟؟ أولا نقتل صورة الله عندما نقتل الآخر ؟؟؟؟ وتكبرُ المسؤوليةُ كلما ازدادَ وعيُ الإنسان لهذه الحقيقة . وكلما ازداد إدعاءُ الإنسان بمعرفة الخالق وبالإيمانِ به ازداد ثقلُ العبءِ على كاهلِه وأحسَّ أن من واجِبه العمل على تربية وتوجيهِ وهندسةِ النفسِ البشريَّةِ لتعي حقيقتها فتتحرَّرُ
من الدوافعِ العدوانيّةِ والسلبيّةِ الدخيلةِ على طبيعتِها وجبلتِها .
فمهمةُ ومسؤوليةُ كلِّ من يؤمنُ بجوهرٍ روحاني أن يعملَ على إبرازِ وإيضاح هذه الحقيقة والاَّ يكون مرائياً ومنافقاً لا يؤمن بشيء وتقعُ على عاتقِه وعاتقِ أمثالِه مسؤوليةَ كلِّ الجرائمِ والحروبِ والدَّمار .
أمَّا إذا كنَّا لا نؤمنُ بوجودِ العقلِ الإلهي ولا بوجودِ جوهرٍ روحاني في الإنسانِ
فندخلُ عند ذلك بعبثيَّةِ الكونِ ويُصبحُ كلُّ شيءٍ مهزلةً وضياعاً وتصبحُ البشريَّةُ مفقساً للفراخِ ويحقُّ لكلِّ من يقوى ويقتدر أن يتصرَّفَ بهذه الفراخِ على هواه .
فهل توجدُ في أيَّةِ مملكةٍ من ممالكِ الحيوانِ مثل هذه الصورةِ من العبثيَّةِ والعدميَّةِ والوحشيَّةِ المطلقة؟؟؟ الوحشيةُ التي لا تضبطها غرائز ولا تقيِّدها قيود ....
وهنا يصبحُ العقلُ ،الذي هو نعمة إلهية ، نقمة شيطانيَّة تسعى لتدميرِ وإفناءِ كلِّ شيء .
ألا تدفعنا هذه النتيجةُ لنفكرَ مليَّاً بحقيقةِ وجودِ كائنٍ شريرٍ يسعى، ومنذ وجودِ الإنسان ، ليدمِّره ويقضي عليه ؟؟ وبعيدا عن كلِّ تخريفٍ وبمنتهى العلمانيَّة
نحن مضطرُّون لنقولَ بوجودِ مثل هذا الكائن .
فالإنسانُ والإنسانيَّةُ لا تقومُ ولا تصلحُ أمورُها إلاَّ على بعديها الروحي والمادي ، وما نشاهدُه اليومَ من طغيانِ البعدِ المادي ليس إلاَّ مؤشرٍ أسود قاتم على بدايةِ إنحلال
وزوال المجتمع البشري بما ملكته يدُ الشرِّ من وسائل إفناءٍ وتدمير .
ومسؤوليةُ الجميعِ أن يعوا خطورةَ ما يجري وأن يُعيدوا ، متضافرين ، دور البعد الروحي وارتباطِه الأصيلِ بخالقِ الوجودِ الحقيقيِّ .
نحن جميعُنا ومضاتٌ من الحقيقةِ الإلهيةِ وعلينا أن نعمل مع الخالقِ لتكبيل الشرِّ
والشرير وذلك بوعينا وإدراكنا لحقيقتنا أوَّلا ثم بنشرِ هذه الحقيقة والعمل على تربية الإنسان لكي يحرِّرَ جبلتَه مما لحق بها من دوافع شريرة مكتسبة وإلاَّ فنحن نستعجلُ يوم القيامة وندفع بأنفسنا دفعاً إلى الحريقِ المطلقِ والنهايةِ الرهيبة .
أصبحنا كلُّنا أدواتٍ بيدِ الشيطان يفعلُ بنا ما يشاءُ ويُغرينا بما يشاءُ وننفِّذُ له ما يشاءُ. صدِّقوني ... سحبٌ سوداءُ قاتمةٌ تلفُّ الوجودَ وستمطرُ دماراً وخراباً
وسنبكي كثيراً عندما لم يعدْ البكاءُ ينفع ... لا تزالُ فرصٌ كثيرةٌ أمامنا ، فمن المحبةِ والحنانِ والرحمةِ تتصاعدُ أبخرةٌ ساخنةٌ بإمكانها أن تبدِّدَ السحب السوداء وينقشعُ
الغمامُ القاتم ...
بقلمي انا حكمت نايف خولي / في 7/ 3/ 2009/