الأمانة محور من محاور التربية الإيمانية، نحن في أمسِّ الحاجة له جميعاً، وأذكركم بالهجرة أنه لما أراد أن يخرج مهاجراً، وعنده ودائع القوم .. والقوم قد فزعوا أصحابه، وأخذوا دورهم وأموالهم، وتركوهم يخرجون بدون ممتلكاتهم - خرجوا بدينهم وتركوا ممتلكاتهم - ليستولي عليها الكافرون ظلماً وعدواناً، فجاء بشابٍ يبلغ ثلاثة عشر عاماً – شاب صغير هو عليُّ بن أبي طالب - وقال: {يا عليّ نَمْ في فراشي هذا، قال: يا رسول الله أخشى أن يدخلوا عليَّ غيلة (فجأة) فيقتلوني، قال: أبشر فلن يصلوا إليك بسُوءٍ، ابقَ في مكاني لترُدَّ الودائع إلى أهلها}
وكان درساً عظيماً في الكون كلِّه، من بدءه إلى الختام مع هذه الحرب، ومع ما أخذوه من أصحابه إلا أنه يلقِّنُهم هذا الدرس العظيم: {أدِّ الأمانة إلى مَنْ ائتَمَنَكَ ولا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ}{1} فحتى لو خانك هو فلا تردها بخيانة، لأن كُلَّ إناء بما فيه ينضح، إذا كان سمح لنفسه بالخيانة فخُلُقِي ودِينِي وإِيمَاني لا يسمحون لي بهذه الخصلة الذميمة.
وأعلن صلى الله عليه وسلم على الملأ سمات أتباعه منذ بعثته إلى يوم الدين، ما أبرز سِمَةٍ يتَّسِمُ بها مسلم في كل زمان ومكان؟ الأمانة، فقال صلى الله عليه وسلم: {لا إيمان لمن لا أمانة له، لا إيمان لمن لا أمانة له، لا إيمان لمن لا أمانة له}{2} خُلُقُ الإسلام الأول هو الأمانة، والأمانة في كل شئ .. في المال، وفي المقال، وفي النظر في الأشياء، وفي الأسرار .. في كل شئ، وعلى المؤمن أن يلتزم بهذا الخُلُق ... خُلق الأمانة.
ولذلك وعى أصحابه هذا الدرس فبعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم بأكثر من ثلاثة أعوام، جاء رجل يسمى أبو العاص بن الربيع وكان متزوجًا من ابنة النبي السيدة زينب رضي الله عنها ولما هاجرت إلى المدينة - وظلَّ على كفره - فرَّق الإسلام بينهما، فحدث أنه كان على رأس قافلة كبيرة للتجارة لقبيلة قريش إلى الشام، وبينما هو عائدٌ بالتجارة بربحٍ وفير، شرح الله صدره للإسلام قريباً من المدينة، فهمس في أذنه بعض المرجفين ضعاف النفوس فقالوا له: مادُمْتَ أسلمت فلا تَرُدَّ لقريش مالها، وأعطه إخوانك المهاجرين تعويضاً لهم عن مالهم وممتلكاتهم التي أخذها الكفار منهم في مكة، لكنه رفض وقال: بئسما نصحتني به يا أخا الإسلام، أتريد أن أبدأ عهدي مع الله بالخيانة؟ لا يكون ذلك أبداً، لا بد أن أبدأ عهدي مع الله بالأمانة.
فذهب إلى مكة وردَّ الأموال لأصحابها، وقال:{يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، هَلْ بَقِىَ لأَحَدٍ مِنْكُمْ شَيْءٌ ؟ قَالُوا: لا وَاَللّهِ، قَالَ: فَإِنّى أَشْهَدُ أَنْ لا إلَهَ إلاّ اللّهُ، وَأَنّ مُحَمّدًا رَسُولُ اللّهِ لَقَدْ أَسْلَمْت بِالْمَدِينَةِ وَمَا مَنَعَنِى أَنْ أُقِيمَ بِالْمَدِينَةِ إلاّ أَنْ خَشِيت أَنْ تَظُنّوا أَنّى أَسْلَمْت، لأَنْ أَذْهَبَ بِاَلّذِى لَكُمْ}{3} وذهب إليهم في دارهم ولم يخشَ أن يقتلوه أو يحبسوه ويسجنوه، لأنه يريد أن ييثبت لهم القيم الإيمانية.
والمحور التالي في الصبر، وكم نحتاج للصبر اليوم وكل يوم، الرسول صلى الله عليه وسلم دعا أهل مكة إلى الإسلام فلم يستجب له منهم إلا القليل، ولم ييأس وتحمل آذاهم، وهو يدعوهم متجملاً بخُلُقِ الصَّبر، لأن الصَّبر هو العُدَّة الأولى التي يعتمد عليها أي إنسان يريد أن يبلغ مناه، كما قال الله: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} السجدة24
فالصَّبرُ هو الخُلُقُ الأول الذي يحتاج إليه الإنسان ليواجه كل ضروب الحياة، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: {الصبر من الإيمان بمنزلة الرُّوح من الجسد}{4} فكما أن الجسد لا يستغني عن الروح! فكذلك المؤمن لا يستغني عن الصبر.
والصبر من أول ما نستفيد في حياتنا من نبيِّنا صلى الله عليه وسلم في قصة الإسراء، فإننا خاصة ونحن في مقتبل العمر يدور في أذهان شبابنا طموحات كبيرة، وأمنيات كثيرة، قد يضيق الزمن عن تحقيقها، وقد لا يُسعف المال بتحقيقها، فما علينا إلا أن نَتَدَثَّر برداء الصَّبر، ولا نتعجل في تحقيق الرغبات بما يخالف الشرع، وهذه أكبر آفة في مجتمعنا الآن.
فإن الناس - نظرًا لكثرة متطلبات الحياة - لا تكفي دخولهم الحلال لتحقيق ما يطمحون إليه، فيلجأون إلى أبواب الحرام، وطرق الكسب غير المشروع، ليحصلوا على الأموال التي يلبون بها طلباتهم، فيخسرون الدنيا والآخرة لأنهم خالفوا شرع الله
ذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف - لمَّا يأس من أهل مكة - ولم ينطوِ على نفسه، ولم تنتابه العقد النفسية أو الأحوال العصبية أو المرضية، لأنه مُجَمَّلٌ بِرُوحِ الله، وإذا يأس من قوم ذهب إلى آخرين، وتلك حكمة النبيين والمرسلين، ويكفى أنَّ الصبر هو أوسع عطاء وأبر رزق يسوقه الله للمسلم كما وجد في الحديث الشريف: {مَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبرْهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَعِفَّ يُعِفَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ، وَمَا رُزِقَ الْعَبْدُ رِزْقاً أَوْسَعُ مِنَ الصَّبْرِ}{5}
وهنا محور دقيق من محاور التربية الإيمانية، إن عالمك الداخلي الروحاني هو باب الصلة التي بينك وبين مولاك، والحبل الموصول الذي يصل إليك منه الخير من الله. لما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل الطائف ودعاهم إلى الإسلام، وكذَّبُوه، وآذوه، وسلطوا عَبِيدَهُم وصبيانهم عليه، يحفون به عند مسيره من كل الجهات، منهم من يقذفه في قدميه بالحجارة، ومنهم من ينهشه بلسانه بِسَبٍّ أو شتمٍ أو تجريح، ما المخرج؟
هنا يعلِّمنا الله درساً عملياً إيمانياً، نحتاج إليه جميعاً في كل لحظات حياتنا. أنَّ الإنسان إذا ضاقت به الأمور، وانقلبت عليه الخطوب، ماذا يفعل؟ يرجع إلى الله، ويفزع إلى مولاه، فقد قال عز وجل: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً{2} وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} الطلاق
وهذا الباب هو الذي يحفظ التوازن لعباد الله المؤمنين، فَتَقِلُّ بينهم نسبة الأمراض العصبية، والآفات النفسية، والحوادث الإنتحارية، لأن المرء عندما يرجع إلى الله، ويفرغ الشحنة التي ضاق بها صدره إلى الله، فإن الله يَتَنزَّلُ عليه بالسكينة والطمأنينة، ويهدِّئ روعه، ويُسكِّنُ جأشه، ويثبِّت نفسه، ويجعله يتحمل الصعاب بنفس راضية
أما غير المؤمنين، فإن أكبر دول يتمتع أهلها بالحضارة المادية: الدول الاسكندينافية {السويد، النرويج، والدانمارك}، هذه الدول لا يحسُّ المرء فيها بأي مشكلات حياتيه، من جهة العمل، أو السكن، أو وسائل المواصلات، أو أي أمر يحتاجه المرء في دنياه، لكن الإحصاءات التي تجريها المنظمات العالمية تثبت أنها أعلى دول في العالم في الأمراض النفسية والعصبية وحوادث الانتحار، لماذا؟
لأن عندهم جفافٌ رُوحَانِيّ، وليس لهم طريقٌ إيمانيٌّ يلجأون إليه عند المصائب، فاجعل سرك دائماً عاكفاً على حضرة الله، وباب قلبك مفتوحا لله، ولا ترم أحمالك على سواه، تكن على خير وأحسن وأفضل ما تحبه وتتمناه
{1} رواه البخاري وأبو داود والترمذي والحاكم عن أبي هريرة {2} رواه أحمد وابن خزيمة وان حبان والبيهقي عن أنس {3} المغازى للواقدى {4} رواه ابن حبان وابن عساكر والبيهقي عن علي وابن أبي شيبة والديلمي في الفردوس عن أنس {5} ابن جرير عن أَبي سعيدٍ، جامع المسانيد والمراسيل