ثلاثة أرقام لنبدأ:
1) المغاربة كتموا أنفاسهم منذ عام 2003 إلى اليوم حينما رصدوا 11 مليار درهم لبناء أحد أهم الموانئ العالمية في اللوجستيك (طنجة ميد) وينتظرون ما ستسفر عنه عملية التوسعة الجارية الآن.
2) المغاربة يترقبون بشوق ما ستسفر عنه مساهمتهم البالغة 5,11 مليار درهم لفك الحصار عن المناطق الحدودية من فكيك جنوبا إلى الناضور شمالا مرورا بجرادة ووجدة طبعا، وهو اعتماد خصص لإنجاز أوطوروت وجدة فاس (9 مليار درهم) والخط السككي تاوريرت-الناضور (5,2 مليار درهم).
3) المغاربة لم يترددوا في تخصيص 5 مليار درهم من ضرائبهم لفك العزلة عن الساحل المتوسطي من السعيدية إلى طنجة، وهو المشروع المنتظر أن يكتمل بعد سنة ونصف بعد الانتهاء من مقطع بني بوفراح-الجبهة.
إذا كانت هذه الأرقام قد أيقظت شعلة الأمل تجاه ما يمكن أن يجنيه المغرب من تبعات مشاريع ذات بعد وطني، فإن ما سطر في الدار البيضاء في بضع عمليات تجاوز هذه المشاريع الوطنية بكثير. حسبنا هنا الإشارة إلى بعضها فقط لإظهار حجم ما ستلتهمه الدار البيضاء في السنوات الخمس المقبلة من ملايير. وهذه العمليات الأولية هي:
* 11 مليار درهم للخط السككي السريع بين المحمدية والبيضاء (ما يوازي إنجاز ميناء طنجة).
* 4,6 مليار درهم للخط الأول الترامواي.
* 2 مليار درهم للملعب الكبير سيدي مومن.
* 2 مليار درهم لمحطة تصفية الواد الحار بالبرنوصي.
* 5,3 مليار درهم لبناء كازانيرشور بسيدي معروف.
* 5,3 مليار درهم لإضافة محطة ثالثة للحاويات وطريق مداري خاص بالشاحنات من الميناء نحو عكاشة.
* 5,3 مليار درهم للطرق والأنفاق في إطار برنامج التأهيل الحضري بالبيضاء.
أي أن جزءا يسيرا من ما ورد في الشطر الأول من المخطط المديري الذي زكاه الملك يوم 21 أكتوبر 2008 (مجموع أغلفتها 32 مليار درهم) تفوق بكثير ما خصص لكل المشاريع المهيكلة بباقي التراب الوطني..
وليست هذه «الحظوة» الخاصة بالبيضاء مرتبطة برغبة أو نزوة ملكية، بقدر ما تعكس تأثر المغرب بالمد الكوني المتمثل في انخراط شخصي للرؤساء في البحث عن حلول للمشاكل التي تعيشها الحواضر الكبرى بدولهم. ولنا في حالة ساركوزي مع باريز وحالة توني بلير ومن بعده براون مع لندن وميركل مع بيرلين وفلاديمير بوتين مع موسكو وزعماء الحزب الليبرالي الياباني مع طوكيو والحكم الفيدرالي الأمريكي مع نيويورك ونظيره البرازيلي مع ساوباولو.. إلخ، بما تمثله المدن الكبرى من رهانات وطنية بل ودولية.
وهذا ما يفسر (أي المد الكوني) لماذا اختار الملك محمد السادس أن يترأس شخصيا التصديق على المخطط المديري للبيضاء يوم 21 أكتوبر 2008، علما بأن المغرب يتوفر على 1497 جماعة حضرية وقروية لم تحظ أي واحدة منها بشرف الحضور الملكي باستثناء بلدية البيضاء. (راجع التفاصيل في العدد 311).
التحالف الإجرامي
اختيار محمد السادس أملته أربعة التزامات أو لنقل أربعة أوراش فتحها المغرب منذ صيف 1999 وهي:
1) ورش البحث عن المصالحة وبناء دولة الحق والقانون القائم (أي الورش) ليس فقط على إجبار الدولة على احترام الحقوق والحريات، بل وإلزام الفرد أيضا على احترام ضوابط الجماعة وقواعد المجتمع.
2) ورش تحديث الاقتصاد وتطويره عبر البحث عن آليات جديدة لتجاوز اقتصاد الريع، وهو ما يفسر ذاك الانشغال بوضع مخططات »إميرجنص، آزور، الأوفشورينغ، المخطط الأخضر إلخ...
3) الورش الثالث: يكمن في الانشغال بتمكين التراب الوطني من مشاريع كبرى مهيكلة (تمديد شبكة الأوطوروت إلى الشرق والجنوب، الموانئ الكبرى، تثنية السكك، تي جي في، مطارات إضافية، سدود... إلخ). وما يتفرع عنه من ملفات من قبيل الطرق القروية، الماء، الكهرباء... إلخ.
4) الورش الاجتماعي المتضمن لعدة عناوين من قبيل: مدن بدون صفيح، المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، محاربة الإقصاء والهشاشة الاجتماعيتين، رد الاعتبار للشخص المعاق ولكل الفئات المهمشة (نساء، سجناء، أطفال... إلخ)، رد الاعتبار أيضا للطبقة المتوسطة...
وإذا كان الورش الأول أفقيا والورش الثاني تتولاه وزارات تقنية تحت إشراف الملك، فإن الورشين الثالث والرابع يعتبران ورشين لصيقين بمحمد السادس بدليل أن كل تحركاته أو خطبه يندر أن تكون خالية من الاشارة إلى هذين الورشين.
صحيح أن وتيرة الإنجاز تختلف من ورش لآخر، ومن منطقة إلى أخرى حسب قدرة الفاعلين المحليين والوطنيين على الانخراط في هذا التوجه وحسب قدرة المؤسسات على مسايرة الإيقاع، لكن أنى كانت الوتيرة فالمؤكد أن هناك رؤية واضحة رسمت المسار الواجب أن تسلكه البلاد. لكن (وهنا لابد من لكن) نجد انتصاب جيوب المقاومة الرافضة لأن ينهض المغرب ويقطع مع ما كان سائدا منذ عقود. ويتجلى ذلك في بروز تحالف ثلاثي ضد كل ما ارتضته أوسع فئة من المغاربة، وضد ما ربطت به المؤسسة الملكية مشروعيتها.
إن البشاعة التي تجري اليوم في الهراويين والشلالات وبوسكورة وعين حرودة، تكشف عن كون السلطة انهارت وتحللت الدولة من التزامها في ضمان الأمن العام وحماية التراب من نهب المافيا.
إن تناسل البناء العشوائي الفظيع الذي يتم ليس أمام أنظار المسؤولين، بل وبتورط ممثلي السلطات المعينة والمنتخبة والأمنية في هذه الفظاعات يكشف عن هشاشة في تدبير شؤون المواطنين.
إن هذه الجيوب تتكون من تحالف ثلاثي ينسف آمال المغاربة ويحفر قبر مشروعية المؤسسة الملكية، وهو تحالف مكون من:
1) أصحاب اقتصاد الريع الذين يستثمرون في العقار العشوائي للسكن غير اللائق، ولا يهمهم سوى تحويل وظائف العقار بدون قيمة مضافة للبلاد والعباد، وبدون استحضار للمنتوج الآدمي الذي سينشأ في القمامة والأوساخ والبيوت الواطئة المفتقدة لكل الشروط الإنسانية.
2) أباطرة البناء العشوائي (خاصة الهنغارات) لأن أصحابه لم يعودوا خارج المسارب، بل تحولوا إلى فاعلين سياسيين، ويوجدون على مستوى المساهمة في صياغة القرار (برلمانيين ورؤساء جماعات).
3) مصاصو الدماء: وهم المتهربون من الضرائب (خاصة مستوى منطقة عين السبع وعين البرجة والبرنوصي والمحمدية وغيرها)، حيث حولوا، بل هربوا المعامل واليد العاملة نحو الضواحي العشوائية هربا من الشفافية ومن أداء الضرائب.
التساؤلات المقلقة
ولفهم خطورة هذا التحالف الإجرامي يكفي أن نتساءل:
ما معنى أن يأتي الملك ويدشن القطب الحضري الهراويين، وما أن يغادر مكان التدشين نحو قصره، حتى تبدأ عمليات البناء العشوائي الفظيع وتبدأ عملية نهش المجال؟
ما معنى أن يدشن الملك مدن الرحمة والهراويين وزناتة، وبدل أن تنخرط السلطات في إنجاح المشروع، نرى أعوانها ومنتخبيها ورجال دركها هم الذين ينظرون ويقودون التحالف الإجرامي؟
ما معنى أن يترأس الملك حفل توقيع اتفاقية لمحاربة 92 ألف أسرة صفيحية، فإذا به يطوق بمحيط مليء بصفيح إضافي؟
ما معنى أن يأمر الملك بفتح 1400 هكتار في وجه التعمير بالهراويين ويأذن بفتح 2500 هكتار في التعمير بالرحمة ويبارك فتح 850 هكتار بسيدي مومن و1800 هكتار بسيدي عثمان وبنمسيك و1000 هكتار بالمدينة الخضراء و1000 هكتار بالنواصر ويترأس مراسيم فتح 2000 هكتار في وجه التعمير في زناتة.. ومع ذلك نجد التحالف الثلاثي يقول له: »إذهب وربك فقاتلا إنا ها هنا لعشوائيون«.
ما معنى أن كل مكان يزوره الملك، وبمجرد ما يغادره إلى قصره بالرباط أو أي قصر آخر، حتى يتحول بقدرة قادر إلى منطقة ضغط على البناء العشوائي؟
ما معنى أن نجد اليوم مسؤولين في السلطة وفي الجماعة وفي الدرك على رأس المتورطين؟
ما معنى أن يخصص المغاربة الملايير سنويا لمحاربة جيوب الهشاشة وتجفيف ينابيع الإجرام والإرهاب، وإذا بالتحالف الثلاثي ينتج جيوبا جديدة، وكأن قدر المغاربة البقاء رهائن قاموس لا يتضمن سوى« الهشاشة»، «الفقر،» «الإقصاء»، إلى ما لا نهاية؟
هل الخلل مرتبط بحكامة رديئة؟ أم بتوتر بين مستوى الحكامة محليا ووطنيا؟ أم يفسر بضعف أداء من يختارهم الملك لتمثيله إقليميا؟ أم لغياب انخراط القضاء في هذا العمل؟ أم لضعف رقابة الأحزاب على ممثليها؟ أم لرغبة مغاربة الأسفل في أن يبقوا في الوسخ والوحل ووسط القاذورات؟
لماذا نجد أن كل المشاريع التي توكل لهيآت خاصة تعرف النور (طنجة ميد، كازانيرشور، المارينا، أبي رقراق، ترامواي الرباط، قطب أنفا.. إلخ) عكس ما نلاحظه كلما تولى الإشراف على الملف منتخب أو عامل أو دركي؟ وهل أصبح رجل السلطة ورجل الجماعة مرادف لعدم النجاعة؟
أيا كان الجواب، فإن ما يجري في ضاحية العاصمة الاقتصادية ينذر بالمخاطر وينذر بأن تتحول الدار البيضاء من نقطة في مكان إلى فاجعة في زمان...
منقول