كم من الفرص الحدثية ضاعت وتم التعامل معها بحرفية جد ناقصة حرمت المغرب من تحويلها إلى نقط ربح إعلامية وفكرية.... وكم من اللحظات الساخنة سياسيا واقتصاديا وحقوقيا وأمنيا وعقائديا لم ننجح في جعلها محطات للجدل النافع وتأسيس القناعات الجماعية المبنية على إعمال أقصى نسب الذكاء الوطني المطلوب راهنا، خصوصا إذا أدركنا حجم التحديات القادمة المطروحة على جدول أعمال الدولة والمجتمع وعلى جميع الأصعدة. (مقتطف من الوثيقة المرفوعة للملك)
لن نفاجأ، عما قريب، إذا سمعنا أن القصر أوفد أحد أعضاء ديوانه الملكي إلى الخليج ليصطف في طابور من أجل أن يظفر ببرمجة بث للخطاب الملكي في إحدى القنوات الخليجية، ليس من أجل أن يسمعه العرب، بل ليستمع إليه الشعب المغربي (!) بسبب استمرار نزيف هجرة المغاربة لقنواتهم العمومية الممولة -وهنا المفارقة- من ضرائبهم.
قرار بث خطاب الملك في إحدى القنوات الأجنبية ليس ضربا من الترف الإعلامي، بقدر ما يرتكز إلى آخر الإحصائيات التي أبرزت تحول المعلنين المغاربة إلى قنوات الخليج لاصطياد «الزبائن» المغاربة من أجل شراء منتوج المغاربة، بدليل أن سليم الشيخ مدير «دوزيم» كشف في ندوة صحفية يوم الثلاثاء 31 مارس 2009 بأن 12 علامة تجارية مهمة بالمغرب هاجرت، خلال الشهر الماضي، نحو القنوات العربية بعد أن سئمت بث وصلات إشهارية بقنوات مغربية لا يراها أحد!
وإذا صدقنا أرقام «ماروك ميتري» الصادرة في مارس 2009، فإن نسبة مشاهدة المغاربة لقنواتهم العمومية لا تتجاوز 49 في المائة. أما إذا احتكمنا إلى الأرقام المتداولة بين صانعي القرار، فإن نسبة مشاهدة المغاربة لقنواتهم العمومية انتقلت من 70 في المائة عام 2003 إلى 30 في المائة حاليا. أي أن الآية انقلبت وأصبح ثلث المغاربة وما يزيد رهائن بيد قنوات أجنبية (خليجية بالأساس)، بينما الثلث المتبقي هو الذي مازال «وفيا» لقنوات القطب العمومي.
وبالرغم من خطورة الموضوع، وخطورة ترك شعب رهينة بيد قنوات مؤدلجة من طرف قوى أخرى. فالملاحظ أن السلطات العمومية غير مبالية، ولا يبرز في الأفق أنها منشغلة بمصير أحد أهم آليات التنشئة والتلحيم داخل المجتمعات.
والخطير في الأمر أن المسؤولين لما يواجهون بالوقائع الصارخة حول افتقاد المغرب لتلفزة قادرة على إنتاج الخبر والتقاط انتظارات الجمهور وصياغتها بشكل ذكي يلبي القرب ويتجاوب مع نبض المجتمع، يشهرون نموذج التلفزة العمومية ببريطانيا، مثلا، وتدني نسبة مشاهدتها من لدن البريطانيين. والحال أن هذا الدفع واه، لأنه يتناسى أن المجتمع البريطاني محصن بقنوات بريطانية (منها العام والخاص) تتنافس بمهنية واحترافية بشكل يغري المشاهد ويلبي الأذواق دون حاجة البريطانييين إلى وضع «الكسكاس» أو «البارابول» لرؤية قنوات أجنبية، لأن هذه القنوات (شأنها شأن كل قنوات المجتمعات المتمدنة) تحتكم لمبدأ مقدس، ألا وهو القرب واحترام الإنسان ككائن أيا كان وضعه: سائق طاكسي أو أستاذ أو موظف بسيط أو عاطل أو موظف سامي أو رب مقاولة. أما في المغرب، فإن المبدأ المقدس لدى المسؤولين عن الإعلام العمومي فهو تضبيع المغاربة واحتقار ذكائهم بشكل يوحي وكأن هؤلاء المسؤولين ليسوا مغاربة سوى بـ «لاكارت ناسيونال» فقط، بالنظر إلى غياب الجرأة لديهم في توظيف التلفزة لرفع المستوي المعرفي للشعب، وجره إلى الانشغال بالقضايا العامة وبالرهانات والتحديات المطروحة، سواء داخليا وخارجيا. ولسنا في حاجة إلى استعراض القضايا الكبرى التي لا يشرك فيها المغربي بواسطة التلفزة من قبيل الصحراء أو الأزمات الدبلوماسية التي عرفها المغرب مع مجموعة من الدول أو تداعيات الأزمة المالية في بلادنا أو الكوارث التي أصابت نظامنا التعليمي وانهيار سلم القيم والأخلاق بالمدن الكبرى إلخ .. بل حتى القرارات المهمة التي يتخذها ملك البلاد وتكون لصالح مجموعات بشرية معينة أو لصالح مجال ترابي معين (مدونة المرأة، جبر الضرر، الأوراش الكبرى..) لا توظف بشكل أنيق من طرف التلفزة لخلق ارتعاشة قومية، بل تعالج بشكل متكلس وأرثوذوكسي يخلق النفور.
وحتى الإشراقة الوحيدة التي كانت تتوفر لجزء من المغاربة المتمثلة في إحداث قناة دوزيم وجعلها متحررة من طقوس المخزن تم إقبارها، وبدل أن تنجح دوزيم في جر القناة الأولى إلى الجودة والمهنية وإلى القرب، أفتى «جهابدة الإعلام» على السلطة المركزية بوجوب مخزنة دوزيم ومخزنة السماء، وهي المخزنة التي تم إحكام قبضتها منذ أن وقعت أحداث 16 ماي 2003. حيث بدل أن تكون تلك الأحداث محطة لرفع سرعة تحديث المجتمع وتحديث إعلامه العمومي، أصبحت محطة تؤرخ لـ «نهاية الاستراحة» والعودة إلى مغرب السبعينات والثمانينات حيث كانت التلفزة توظف ليس لتعبئة شعب لينخرط في القيم الكونية، بل لتدجينه.
وها هي عشرة أعوام قد مرت على بدء مسلسل «إصلاح القطاع السمعي البصري» بدون أن يمثل القطاع رهانا للطبقة السياسية التي استقالت من مهامها وتركت بضعة مهندسين يتبجحون بـ «التشاش» الذي تحقق من تجهيزات رقمية ومعدات لوجستيكية وهوائيات لاقطة، وكأن التلفزة هي مجرد إنتاج «لعب عاشوراء» لعرضها أمام الملك وإيهام الرأي العام أن هناك تحولات وإصلاحات، في حين أن التلفزة هي، أولا وقبل كل شيء، أداة من أدوات التنشيط الديمقراطي ومضمون يتماشى مع انتظارات الأغلبية الساحقة من المغاربة (انظر الوثيقة المرفوعة للملك في ص:9-8).
وما عدا ذلك فإن الحلقيات التي يشكلها الدائرون في فلك الحكم بالقصور والصالونات لتسطير استراتيجية لمحاربة «الجزيرة» أو «العربية» وغيرها لا تعدو أن تكون حلقيات لمسؤولين منشغلين بمصالحهم أكثر من انشغالهم بهموم المغرب والمغاربة وغير واعين بما يجري بالمغرب.
وإذا كان فظيعا أن المسؤولين نجحوا في جعل الإعلام العمومي عازلا بين ما يقوم به الملك وما ينتظره المواطن، فإن الأفظع أن نسمع يوما أن الملك بنفسه يفضل «الزابينغ» ليهجر تلفزة مغربية لا تنقل له ما يمور به المجتمع المغربي!
منقول