كان عبد الرحمان اليوسفي مجرد مهرب أسلحة في نظر الحسن الثاني. لكنه سيكون هو
الوزير الأول الأنسب لقيادة أول حكومة تناوب بعد حكاية السكتة القلبية التي هددت مغرب الملك الراحل. اختار اليوسفي، وهو يدبر ملف تكوين حكومته، نهجا جديدا لم يكن معمولا به في كل الحكومات السابقة، إذ سيختار فريق عمله بمعرفته قبل أن يعرضه على الحسن الثاني. وعلى امتداد أربعين يوما، ظل عبد الرحمان اليوسفي يجالس ويناقش ويقنع، قبل أن يكمل التشكيلة النهائية لأول حكومة تناوب. سقط الكثير من الأسماء بعد أن وضع الحسن الثاني تحتها خطا أحمر. واقترحت أسماء أخرى لم تتضمنها لائحة اليوسفي. في هذا الخاص، نعيد تركيب الحكاية، ونقدم لقراء «المساء» بعض التفاصيل التي رافقت هذه الحكومة، التي لا تزال في حاجة إلى الكثير من الدرس والتحليل.
حينما فتح باب المصعد المتجه نحو الطابق الأول بالقصر الملكي بالرباط، لم يتردد الحسن الثاني، وهو يستقبل ضيفه الجديد الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، عبد الرحمان اليوسفي، الذي اختاره حزب المهدي وعمر خلفا للراحل عبد الرحيم بوعبيد، ليقدمه لنجليه الأميرين سيدي محمد ومولاي رشيد اللذين وقفا خلف الوالد، عندما قال لهما «هذا هو عبد الرحمان اليوسفي الذي حدثتكما عنه.. إنه مهرب أسلحة سابق».
لم يكن هذا الاستقبال العاصف بين الرجلين، اللذين سيرسمان بعد ذلك خريطة أول حكومة تناوب في المغرب الحديث، ليفاجئ القائد الاتحادي. إنه يدرك أن الملك الراحل لم يكن مقتنعا بأن يصبح اليوسفي ورفيقه البصري يوما رجلا سياسة. إنهما رجلا مقاومة وحمل السلاح ليس إلا.
لذلك خرج إلى العلن أن قطار التناوب لم ينطلق من محطته الأولى إلا حينما أقسم طرفا المعادلة على المصحف، فيما يشبه التخلي عن ذلك الحاجز النفسي الذي ظل يقف بين ملاكمين، على حد تشبيه «واتر بوري» أدركا وهما على حلبة الصراع لمدة أربعين سنة دون أن ينتصر أحدهما على الآخر، أنهما في حاجة إلى بعضهما.
ولذلك قرأ الكثير من المتتبعين للشأن السياسي أن الزيارة الخاطفة التي قام بها الملك الراحل إلى مستشفى ابن سينا، حيث كان عبد الرحمان اليوسفي قد أدخل للعلاج، هي بمثابة الشوط الثاني من الثقة المتبادلة بين الرجلين بعد أن شكل القسم على المصحف شوطها الأول.
شيك اليازغي على بياض
بين أول استقبال ملكي للكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي، ومعارك استحقاقات التسعينيات، جرت الكثير من الأحداث، خصوصا في داخل حزب المهدي وعمر.
لقد عاد الفقيه البصري، أحد رفاق اليوسفي. وتلقى الاتحاد ضربة موجعة فرقت بين إخوته. ولم يعد محمد اليازغي، الذي كان يعتبر نفسه الأحق بخلافة عبد الرحيم بوعبيد، يخفي تطلعاته للزعامة، لدرجة أنه ظل يصر على أن يلقب بالكاتب الأول بالنيابة وليس بنائب الكاتب الأول للحزب.
لم يتأخر الأمر كثيرا، وغادر اليوسفي إلى مدينة «كان» الفرنسية غاضبا من تدخل إدارة إدريس البصري في استحقاقات سنة 1993، على الرغم من كل الضمانات التي قدمتها الإدارة الترابية والتي وقعت، وقتئذ، ميثاق شرف بمعية الأحزاب السياسية لتكون المحطة نزيهة.
كان لا بد أن يخلو الجو لليازغي، الذي أصبح عمليا هو الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي. لذلك لم يرفض تلك الدعوة التي وجهت إليه من قبل إخوته في حزب الاستقلال، إذ سيبادر إلى اللقاء بمحمد الديوري بعد أن حرك الحسن الثاني قصة التناوب الحكومي.
وانتهى اللقاء بين الزعيمين إلى أن الاتحاد الاشتراكي مع هذا التناوب لدرجة أن اليازغي قال للديوري إن حزب القوات الشعبية مستعد ليضع أمام حزب الاستقلال شيكا على بياض، وإنه لا يجد مانعا في أن يكون امحمد بوستة هو الوزير الأول، لأول حكومة تناوب في المغرب الحديث.
الأموي يفشل تناوب 1993 المغشوش
ستصل المفاوضات بين الاتحاد والاستقلال مراحل جد متقدمة. وتفعيلا للشيك على البياض، الذي تحدث عنه اليازغي، تقرر أن يعقد اجتماع خاص جدا بمنزل امحمد بوستة، يخصص لوضع اللمسات الأخيرة لهذا التناوب الذي نادى به الحسن الثاني بحضور كبار الحزبين الرئيسيين في العملية.
تحلق الجميع حول مائدة غداء ببيت الوزير الأول المفترض امحمد بوستة. مائدة كان من المقرر أن تكون وجبتها كسكسا مراكشيا. وانطلق الحديث حول عدد الحقائب وأسماء الوزراء الذين يقترحهم الحزبان، وحول الأحزاب التي يمكن أن تكمل هذه الحكومة من خارج أحزاب الكتلة، التي كان حزب التقدم والاشتراكية لم يلتحق بها بعد.
ظل الجميع ينتظر وصول محمد نوبير الأموي، عضو المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكين وفجأة سيشكل حضور ابن امزاب مفاجأة غير سارة للحاضرين.
فبينما كان النقاش يدور حول طبيعة الحقائب الوزارية، سينتفض الأموي في وجه محمد الوفا، الاستقلالي الذي كان من أشد المتحمسين لهذه الحكومة، لذلك سيؤدي ثمن هذا الحماس الزائد مستقبلا، ليقول له، ومن خلاله للحاضرين «عن أي حقائب تتحدثون»؟
كان جواب الوفا «إن هذا الجالس أمامك، وكان يعني امحمد بوستة، هو الوزير الأول المرتقب».
رد الأموي بعنف: «إذا كان اسمك هو محمد الوفا، وهو مشتق من الوفاء، فليس من الوفاء أن نتداول في حكومة تناوب بدون حضور عبد الرحمان اليوسفي، الكاتب الأول الحقيقي للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية».
تبادل المجتمعون نظرات الاستغراب مما حدث، ولم يتأخر اليازغي في مد يده إلى حقيبته الصغيرة ليخرج منها بيان اللجنة المركزية للحزب الذي يقول بقبول فكرة التناوب التي نادى بها الحسن الثاني، ويقرأ منها الفقرة التي تؤكد على ذلك. وكعادته، لم يتأخر رد الأموي ليقول لرفيقه في الحزب إن بيان اللجنة المركزية مع مبدأ المشاركة، ولا يحدد تفاصيلها.
انفض الاجتماع عاصفا بعد أن غادر الأموي، دون أن يتناول وجبة الكسكس المراكشي الذي كان سيصنع تناوب سنة 1993.
وفي الطريق بين الرباط والدار البيضاء، كان الأموي يدندن ببعض مقاطع أغاني فريد الأطرش، التي يعشقها ويردد مقاطعها كلما شعر بنشوة. لقد اعتقد الزعيم النقابي أنه أنجز المهمة التي كان يجب أن يقوم بها حينما أوقف مفاوضات تناوب مغشوش.
أما القصر الملكي، فسيصدر بعد ذلك بلاغا يقول فيه إن مفاوضات التناوب توقفت بعد أن رفضت أحزاب الكتلة أن يحافظ ادريس البصري على حقيبة وزارة الداخلية في الحكومة الجديدة. وهو البلاغ الذي جانب الصواب، خصوصا وأن امحمد بوستة، الوزير الأول للتناوب الذي لم يكتمل، سيقول بعد ذلك في برنامج «وجه وحدث» الذي كانت تقدمه القناة الثانية، إنه لم يكن لقادة الكتلة أي اعتراض على إدريس البصري.
اليوسفي يرسم ملامح تناوب 1998
كانت الدولة تدرك حجم ورمزية نوبير الأموي، الذي أعلن عن رفضه لحكومة تناوب بدون عبد الرحمان اليوسفي، خصوصا وأن الزعيم النقابي كان، وقتئذ، رجل المرحلة بامتياز، سواء وهو على رأس الكونفدرالية الديمقراطية للشغل أو في المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي.
انتظر المغرب بعد ذلك إلى سنة 1998 لينطلق قطار التناوب، والذي سمي مرة بالتوافقي ومرة بالسياسي. ولم يكن صانعا هذا التناوب غير رجلين هما الحسن الثاني وعبد الرحمان اليوسفي، الذي هو مجرد مهرب أسلحة، كما قال الملك الراحل.
وجد اليوسفي نفسه، وهو يتلقى الضوء الأخضر لعملية اختيار التركيبة الجديدة لحكومة التناوب، في مواجهة أكثر من جبهة، فيها الداخلية، مع خصومه الذين راهنوا على قيادة تناوب سنة 1993، وفيها الخارجية، مع عدد الأحزاب التي أبدت قبول المشاركة لكن بشروط بعضها سيكون تعجيزيا. أما الإكراه الأكبر فقد تمثل في إبقاء القصر على عدد من الحقائب بيده، وهي التي سماها حقائب السيادة.
لم تستمر عملية الاتصالات التي قادها اليوسفي من داخل قاعة المهدي بن بركة بالمقر المركزي للحزب بحي أكدال بالعاصمة الرباط. لقد اكتشف أن المحيطين به ينقلون كل التفاصيل إلى الخارج، وهو الذي ظل يراهن على السرية لإنجاح مهمة ليست سهلة. لذلك اضطر اليوسفي إلى تغيير وجهته إلى مقر جريدة الاتحاد الاشتراكي بزنقة الأمير عبد القادر بالدار البيضاء.
وهناك بالطابق الخامس للجريدة، رسم اليوسفي الكثير من ملامح حكومة التناوب، رغم أنه ظل ينتقل بين الفينة والأخرى إلى بيت أحمد الحليمي، الذي كان له الفضل في إقناع الكثيرين ممن أفزعتهم هذه الحكومة الاشتراكية.
بالطابق الخامس لجريدة الحزب، استقبل اليوسفي كل زعماء الأحزاب السياسية، بما في ذلك تلك التي ستشكل المعارضة. كما استقبل كل الوزراء الأوائل السابقين، في تجربة هي الأولى، من عبد الله ابراهيم إلى كريم العمراني، وعبد اللطيف الفيلالي، وعز الدين العراقي، فيما يشبه فترة اختبار لقدرات الرجل الذي جرب المقاومة والعمل السري، ليجد نفسه أمام امتحان عمل سياسي في حاجة لأدوات بديلة.
كانت أصعب محطات هذه العملية، هي البحث عن الوزراء المحتملين، وعن الأحزاب المستعدة لدخول التجربة. وبرفقة الحليمي ثم الراحل محمد بوزوبع، ظل اليوسفي يرسم ملامح حكومته، ويضع بجيب سترته أسماء الوزراء المقترحين.
كان اليوسفي يعرف أن كل الحكومات السابقة ظلت تصنع في بيت الداخلية ومن مستشاري الملك. وكثيرا ما تم إبعاد وزير رغم كفاءته فقط لأنه لم يحظ برضى الإدارة. لذلك سيختار الكاتب الأول للاتحاد أسلوبا آخر غير مسبوق في المفاوضات الأولية مع الملك الراحل، ملخصها هو أن يضع أمام الحسن الثاني لائحة بأسماء الوزراء المقترحين للاستوزار، على أن يبدي الملك ملاحظاته الأولية. أما الاختيار فيجب أن يكون من قبل اليوسفي لوزراء حكومته، في سابقة هي الأولى في تاريخ الحكومات المغربية.
قلم الحسن الثاني الأحمر
كان لا بد أن تضع الأحزاب أسماء مقترحيها للاستوزار. وظل اليوسفي يتلقاها ويتفحص ويسأل بعض مقربيه عن سيرهم الذاتية وتجاربهم السياسية. وصل العدد في المنطلق إلى سبعينا وزيرا، سيقدم اليوسفي لائحة بأسمائهم للحسن الثاني بتحديد انتمائهم السياسي دون أن يحدد طبيعة الحقيبة الوزارية المقترحة.
وبإحدى غرف القصر الملكي، كان الحسن الثاني يسطر بقلم أحمر على بعض الأسماء التي اقترحها اليوسفي للاستوزار.
ويحكي مقربون من اليوسفي كيف أن الملك الراحل ظل كلما هم بوضع خطه الأحمر تحت اسم من الأسماء، يقدم ما يشبه التبرير أو التفسير.
وقد كان من ضمن الأسماء التي رفض الحسن الثاني استوزارها في حكومة التناوب، الاستقلاليان محمد الوفا، الذي يكون قد أدى ثمن حماسه لحكومة تناوب 1993 الذي اعتبره الأموي مغشوشا، وامحمد الخليفة.
أما في صفوف الاتحاد الاشتراكي، فقد رفض الملك الراحل استوزار ناصر حجي، الذي سينتظر دوره في التعديل الحكومي. كما رفض الاتحادية باين العياشي، التي كان اليوسفي يريدها وزيرة للبيئة بحكم مهامها في هذا المجال.
وحينما رأى الحسن الثاني أن تمثيلية السوسيين ليست بالقوة الضرورية، قفز اسم العربي عجول لينضاف إلى اللائحة.
وكان اليوسفي مع إسناد حقيبة الصحة لمولاي أحمد العراقي، لدرجة أنه كلفه بوضع تقرير عن الوضع الصحي في البلاد، وما الذي يجب أن يشكل أولوية. غير أن رفض الحسن الثاني للعياشي، حول العراقي لوزارة البيئة.
عاد اليوسفي إلى خلوته في الطابق الخامس لجريدة الاتحاد الاشتراكي ليكمل أشواط هذا التناوب. أما المحطة الثانية، فهي أن يحمل للملك الراحل لائحة حكومته كاملة بأسماء وزرائها وحقائبهم الوزارية.
لقد كان اليوسفي يتمنى أن تؤول حقيبة وزارة الثقافة للمناضل امبارك بودرقة، الذي يحمل اسما حركيا هو عباس. لكنه اعتذر، قبل أن يصبح بعد ذلك عضوا في هيئة الإنصاف والمصالحة.
كما اعتذر شقيقه عبد السلام، المحامي بهيئة اكادير.
وجالس اليوسفي حسن نجمي، وهو أحد المقربين منه، لساعات بنفس طابق الجريدة ليتعرف على رأيه بعد اعتذار بودرقة، خصوصا وأن نجمي كان يستعد لينتخب رئيسا لاتحاد كتاب المغرب، حيث سيحضر اليوسفي الجلسة الافتتاحية للمؤتمر وهو وقتها وزير أول لحكومة التناوب.
وبعد الحوار الذي دار بين الطرفين، اعتقد الكثيرون أن حسن نجمي هو المرشح لمنصب وزير الثقافة، خصوصا وأن اليوسفي كان يراهن على إشراك بعض أعضاء الشبيبة الاتحادية، ونجمي، وقتئذ، عضو مكتبها الوطني، لكسر شوكتها.
لقد سأل اليوسفي عن مواصفات الرجل الذي يستحق هذه الحقيبة، فكان رد نجمي أنه يجب ألا يكون استقلاليا بالأساس، وأن تكون هذه الحقيبة اتحادية بالنظر إلى أن جل المؤسسات الثقافية كانت تسير من قبل اتحاديين. والنتيجة هي أن اسم محمد الأشعري سيقفز عاليا ليشغل هذه الحقيبة بعد ذلك، بعد أن ضغط مقربون من تيار اليازغي ليكون ممثلا بما يليق في هذه الحكومة، التي ستحسب على الاتحاد الاشتراكي. لذلك علق كثيرون على أن الأشعري استوزر باقتراح من اليازغي لدرجة أنه انتقل من بيته ليلة الإعلان عن الحكومة إلى القصر الملكي.
سقط من حكومة التناوب اسم أحد مدراء المؤسسة الجهوية للتجهيز والبناء، والذي كان قد اقترحه كل من فتح الله ولعلو وأحمد الريح، ليشغل مهام وزارة السكنى باسم الاتحاد. أما سبب الإقصاء فهو ما عرفته هذه المؤسسة من أخطاء كانت موضوع متابعات صحافية بما فيها صحيفة الاتحاد الاشتراكي.
ورفض الأموي العرض الذي قدمه اليوسفي لكي يختار من بين أطر الكونفدرالية من يستحق أن يشارك في حكومة تناوبه، لكنه رفض. وقال بأعلى صوته وهو يجالس اليوسفي إنه سيتبرأ «من أي وزير يدخل حكومتك» باسم «الكدش»، رغم أن اليوسفي رد على رفيقه بفقرة في بيان اللجنة المركزية يقول فيها الأموي بالحرف «أنا أضع ثقتي في عبد الرحمان اليوسفي».
ظل طموح محمد بوزوبع هو حقيبة وزارة العدل، بالنظر إلى مهامه في هذا القطاع، وبالنظر إلى ملازمته لليوسفي خلال مرحلة المخاض. إلا أن الوزير الأول كان يفضل أن تؤول هذه الحقيبة لمحمد الحلوي، الذي سبق أن ترأس الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، باعتباره محاميا ومقربا من مطبخ العدل. إلا أن الحسن الثاني اعتبر هذه الحقيبة من ضمن حقائب السيادة.
اليازغي غير مرغوب فيه من قبل الحسن الثاني
كان لا بد في المحطة الأخيرة من رحلة اليوسفي مع حكومة التناوب، أن يلتفت لأسماء الوزراء المقترحين من بقية الأحزاب المشاركة الأخرى.
ومرة أخرى، سيجد نفسه أمام أكثر من إكراه فرض عليه القيام بأكثر من عملية قيصرية لفصل قطاعات، وصنع حقائب وزارية على المقاس. وكان من علامات هذا الوضع ما تعرضت له وزارة التربية والتعليم، والتي أضحت بثلاثة رؤوس هي وزارة التربية الوطنية، التي شغلها اسماعيل العلوي من التقدم والاشتراكية، ووزارة التعليم الثانوي والتقني، التي شغلها عبد الله ساعف، فيما آلت وزارة التعليم العالي لنجيب الزروالي من التجمع الوطني للأحرار. والحصيلة هي أن حكومة التناوب ضمت 41 وزيرا. لذلك وصفت بالحكومة المترهلة، والتي تركت خلفها الكثير من المشاكل على مستوى البروتوكول والمقرات.
في آخر الخطوات التي جمعت الحسن الثاني بوزيره الأول الذي وضع اللائحة النهائية بين يد الملك، كان لا بد أن تقع بعض التعديلات الطفيفة.
وهكذا عاد الحسن الثاني ليعترض على إسناد مهام وزارة الاتصال والناطق الرسمي باسم الحكومة لمحمد اليازغي. أما المبرر الذي قدمه الملك الراحل لوزيره الأول، فهو «أنكم ستتعبون الرجل بهذه المهمة، وابحثوا له عن حقيبة أخرى».
أما وزارة الاتصال، فقد اقترح لها الحسن الثاني العربي المساري، على الرغم من أن حزب الاستقلال لم يقدمه ضمن المرشحين للاستوزار. والحصيلة هي أن المساري أصبح وزيرا للاتصال باقتراح من الملك الراحل، وليس من قبل مستشاره اندري أزولاي، كما تردد
وقتئذ.
خلاصة
أربعون يوما بالتمام والكمال هي التي قضاها عبد الرحمان اليوسفي في ترتيب بيت حكومة التناوب، باستشارة مع الحسن الثاني.
وبشهادة مقربين منه، فقد نجح الرجل في اختياراته، كما نجح في التقليل من بعض الصعوبات التي عرفتها عملية الاختيار، خصوصا بين وزراء الاتحاد.
في الفيلم الشهير الذي يلعب دور بطولته الفنان المصري الراحل أحمد زكي «معالي الوزير»، نكتشف حقيقة الذين يراهنون على حقائب وزارية، وكيف يعدون العدة لاستقبال مكالمة هاتفية تحمل لهم الخبر السعيد.
إنها الصورة الكربونية التي عاشها وزراء حكومة اليوسفي مع أكثر من وزير محتمل اقتنى البذل الرسمية وربطات العنق التي تليق بمقامه الجديد بعد أن تسمر بجانب سماعة الهاتف يتطلع لحرارة الخط.
الأموي.. «العروبي» الذي أفشل تناوب 1993
حينما ذهب زعيم الكونفدرالية ليعزي في وفاة الملك الراحل الحسن الثاني، خاطبه محمد السادس بالقول: «إنني أعرف أنك عانيت كثيرا، الآن قل ما تريد». ومنذ ذلك الحين ظل الأموي يتحدث عن خليفة الحسن الثاني باحترام واضح، ويصفه دائما إما بالملك الشاب أو الملك المحترم.
لقد اعترف محمد السادس للزعيم النقابي بتلك المعاناة التي عاشها خلال سنوات من الاعتقال والمطاردة والتعذيب والتضييق على العمل النقابي وحرية التعبير. غير أن هذه المعاناة لم تمنعه في أكثر اللحظات حساسية، من الحضور ليقف إلى جانب القضايا العادلة التي جعلت منه زعيما لا يشبه الآخرين. ولم يكن غريبا أن تردد جماهير الكونفدرالية أو الاتحاد الاشتراكي، باعتباره عضو مكتبه السياسي إلى حدود مؤتمره الوطني السادس «موت موت يال العدو.. الأموي عندو شعبو»، أو أن تشدو في عز محاكمته في قضية المانغانطيس «الله يبليك بحب الشعب حتى تدخل الزنزانة.. زنزانة الأموي ما يدخلها من والا». سيفشل نوبير الأموي أول تناوب كان من المقرر أن يقوده حزب الاستقلال في سنة 1993 بعد غضبة عبد الرحمان اليوسفي الشهيرة.
لقد دخل بيت الاستقلالي امحمد بوستة ليقلب الطاولة على الجميع، ويرفض السماح بإتمام الصفقة، التي كان يشارك فيها محمد اليازغي باسم الاتحاد باعتباره الكاتب الأول بالنيابة، كما كان يحب أن يوصف. وكان مطلب الأموي هو أن التناوب لا يجب أن يتم إلا بعودة اليوسفي. ليصدر في الليلة ذاتها بلاغ عن القصر الملكي يقول إن فكرة التناوب ستؤجل، بسبب إشكالية اسمها ادريس البصري.
غير أن ذلك لم يمنع الأموي من الاختلاف مع رفيقه اليوسفي حول هوية التناوب الذي قاده، حينما رفض انقياد النقابة لقرار الحزب بخوض تجربة التناوب، ورفض الدعوة التي وجهت له للمشاركة في هذا التناوب من خلال بعض أطر الكونفدرالية. وهو الرفض الذي سيعصف بالمؤتمر الوطني السادس للإتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، بإعلان عدد من التيارات قرار الانتشار في «أرض الله الواسعة» كما قال بذلك اليوسفي، حيث بحثت كونفدرالية الأموي عن غطاء سياسي جديد بتأسيس حزب المؤتمر الوطني الاتحادي.
لم تكن هذه هي أول معركة طاحنة يخوضها الأموي ضد حكومة اليوسفي، التي كانت حكومة إخوته في الاتحاد والاستقلال، باعتباره مناضلا استقلاليا قبل تأسيس الاتحاد، والذي سيطرد منه في بداية سنوات السبعينيات وهو لا يزال يتلمس أقدامه في بيت حزب القوات الشعبية الواسع. بل إنه اختار أن يزلزل حكومة عباس الفاسي بعد ذلك حينما أشار على مناضلي الكونفدرالية بمغادرة مجلس المستشارين.
وكأني بـ«أسد الشاوية» يختار في كل محطة سياسية أن يخرج للعلن ليقول أنا هاهنا.
هي بداوته التي كسبها من منطقة مزاب، وانتماؤه المبكر للعمل النضالي سواء في المجال السياسي أو النقابي. لذلك يشهد للرجل أنه استطاع، حينما تأسست الكونفدرالية الديمقراطية للشغل على أنقاض الاتحاد المغربي للشغل أن يجعل من اسمه زعيما فوق العادة، رغم أنه لم يكن من المرشحين لمنصب القيادة في عز معركة المؤتمر التأسيسي.
جاء الأموي من دوار «ملكو» بعد أن تلقى تربيته الأولى على يد أب فلاح اسمه حمان الأشهب، وأم تدعى عائشة بنت بوعزة.
ويعود أصل اسمه المنتسب إلى «الأمويين»، إلى ولي صالح في نفس المنطقة يدعى «سيدي أمية». حيث خاض نوبير معركة قانونية وقضائية لتغيير لقب «ميّة» إلى «الأموي»، تماما كما خاض معارك أخرى ليسجل أبناءه بأسماء لها دلالاتها مثل «غيفارا» و«معاوية»، و«المهدي»، إلى جانب كل من محمد وسناء، وكلهم أبناء محمد نوبير الأموي من زوجته فاطمة الشاوي، أستاذة العلوم الطبيعية التي ارتبط بها منذ عام 1961.
دشن الأموي سنواته الأولى بحفظ القرآن في كتاب القرية، ومنه إلى مدرسة «إتحاد الحي الصناعي»، التي أسسها عبد الرحمان اليوسفي نهاية الأربعينيات تطبيقا لسياسة حزب الاستقلال، ثم جامعة ابن يوسف بمراكش، فجامعة القرويين بفاس، إلى غاية استقلال المغرب عام 1956 حيث التحق بسلك التعليم، الذي قاده إلى العمل السياسي والنقابي كمعلم ثم كمفتش.
معارك الأموي لم تتوقف منذ التحاقه بحزب الاستقلال سنة 1952 ثم بالاتحاد المغربي للشغل.
وفي حملة دستور 1962، سينال نوبير ثقة المهدي بن بركة، الذي عينه في اللجنة العمالية للرباط في سنة 1963 بعد الذي قدمه لحملة مقاطعة هذا الدستور.
وسنتان على تأسيس الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، سيعلن الأموي عن إضراب عام في ماي من سنة 1981 شل كل الحركة، وأعطى لـ «ك د ش» قيمتها النضالية. والحصيلة هي ما حدث من تدخل قوي للسلطة من أجل إفشاله، وما خلف ذلك من آلاف القتلى والمختفين، واعتقال قيادة الكونفدرالية وإغلاق مقراتها. وكان نصيب الأموي من ذلك سنتين من الاعتقال دون محاكمة.
نفس هذا السيناريو تكرر مع إضراب سنة 1990 دون أن يعتقل الأموي هذه المرة، بل ظل الأمر مؤجلا إلى أن أدلى بتصريحه الشهير للجريدة الإسبانية «إلباييس»، وقبلها حديثه في تجمع خطابي بإحدى القاعات السينمائية بمدينة الجديدة عن «ملك يسود ولا يحكم».
معارك الأموي لم تكن فقط وطنية، ولكنه أرادها أن تمتد إلى العالم العربي والإسلامي. لقد التقى بعدد من القيادات القومية في دمشق وبغداد، كما التقى بعدد من الناصريين في القاهرة. وقام، في عز الحصار المضروب على العراق، بكراء طائرتين من الخطوط الجوية الملكية وتوجه بهما محملتين بالمساعدات الإنسانية نحو بغداد. لذلك كان من أشد المتأثرين بعملية إعدام الراحل صدام حسين لدرجة أن الأموي بكاه بحرقة أمام الملأ.
هذا هو محمد نوبير الأموي، الذي قال عن وزراء عز الدين العراقي «هؤلاء جماعة من اللصوص الذين لا مستقبل لهم.. طغى عليهم الحمق لدرجة لا يعتبروننا نحن في زمرة المواطنين.. والأدهى من هذا أنه سوف يأتي يوم لن يجدوا فيه أي سفينة تحملهم خارج الوطن».
واليوم قال لوزراء بن كيران إنهم مجرد «دراري».
هذا هو نوبير الأموي الذي قال، وهو في طريقه إلى السجن بعد حكاية «المانغنطيس» ما قاله نبي الله يوسف «ربي السجن أحب إلي مما يدعونني إليه».
منقول