امتلأت سماء المدينة بطلقات الرصاص الحي فبدت و كأنها شهب نيزكية ترصع جبين الفضاء في الهزيع الأخير من الليل, يخالها الغريب طقوسا تعبدية تقام فرحا بانتصار آلهة الصباح في صراعها السرمدي على نقيضها الظلام الدامس,أما السكان الظاعنين فاستيقظوا فزعين مذعورين يهرعون إلى حمل ما خف من متاعهم فوق رؤوسهم و أيديهم تشد سواعد أطفالهم خوفا من ضياعهم وسط الأمواج البشرية النازحة نحو تخوم الحدود,أفاقت ماماديا كغيرها من الجيران تحمل ما خف من متاعها منطلقة رفقة زوجها ديوب متلمسين طريق النزوح وسط سيول متدفقة من الأجساد البشرية المرتجفة اللاهثة فرقا من طلقات الرصاص القريبة البعيدة,ظنت المسكينة كغيرها من بني جنسها أن عهد الحروب قد ولى إلى غير رجعة مفسحا المجال لسلام الوحدة الوطنية الذي لطالما طبلت له و سائل الإعلام المحلية, لكن الصراصير قد حنت إلى العزف و الغناء متناسية ما عانته من جوع و برد طوال الشتاء. كانت فكرة الحرب و الموت إلى حين لا تعرف طريقا إلى خلدها و هواجسها, بل في الحياة و السعادة التي منحها زوجها كانت تفكرا,نظرت إليه بتأمل فوجدت قسماته ساهمة بوجوم تستنكه معالم المستقبل المجهول الملفوف بغبش الحروب الفتاكة, التصقت به مرتعشة و عيناها زائغتان لا تكادان تبحثان إلا عن فسحة ضيقة من السكون و الدعة, التصقت به كملاذ آمن, كشظايا متبقية من عائلة كبيرة قضت بقنبلة واحدة أبدتهم عن بكرة أبيهم,أحست بيده تداعب خصلات شعرها التي كانت منزاحة عن بعض منابتها فقضى بفعله هذا على آخر أطلال نوم هادئ, ظل يتلاعب بها على طول الطريق والوجوم ما زال لزقا بقسماته, حتى و صلوا في ساعة متأخرة من الليل المكان الذي اعتادوا الجنوح إليه, ما زالت الخيام منصوبة به و رماد اللجوء السابق ما زال ينبعث منه دخان متصاعد لا يحتاج إلا لمزيد من الأعواد اليابسة حتى تتأجج ناره وتتصاعد ألسنتها على أنقاض دخان خامد, فشرعت ماماديا رفقة صديقتها و توأم روحها سيسيليا تجمعان شظايا ضحايا صراع الأشجار مع الرياح من الأعواد و الأغصان الميتة دفنتاها في موكب جنائزي هندوسي وسط ألسنة من اللهب الحمراء.
سرعان ما تأقلم الجميع مع هذا الجو المفعم بالصمت و الوجوم تثور عليه من حين لآخر أسئلة أم ثكلى تنشد ابنها بضراعة و كأنها تنشد خيطا رفيعا وسط صحراء من الرمال المتحركة, أو طفلة صغيرة تتألق من عينيها دموع كبيرة تبحث عن والديها, أو أسجاع شيخ عجوز جاث على ركبتيه يناجي ربه الخالد في عليائه بكلمات إنجيلية خاشعة يستنزل بها رحماه حتى تعم الضعاف و المساكين من عباده, فظل هكذا حال حتى هربت العتمة عن الوجود, و انتهى الليل المدلهم من المخاض العسير مفسحا عرشه لفجر يوم جديد مسح الحلكة عن جبهة الطبيعة الساكنة إلا حلكة القلوب الواجفة المرتجفة لم يجد عليها سلطانا,ومع طلائعه الأولى سمع هدير محركات المجنزرات العسكرية التي بات صوتها يسكن وجدانهم و يقض مضجعهم و يفزع نومهم ينظرون بعيون زائغة مترقبة إلى ذلك الملازم الذي وقف بأنفة متشامخة متعجرفة يخاطبهم بنبرة عسكرية جافة, مليئة بالألغام أضعفها يستفز كرامة الحمير الضالة آمرا جنوده بعزل الذكور من الرجال و الأطفال عن النساء و العجزة الضعاف,فانطلق الجنود ينفذون الأوامر في حركات متناسقة, يحملون أجسام الضحايا أنواعا مختلفة من الأسلحة و الذخائر وحشروهم في شاحنات عسكرية ترى الأطفال يصعدون إليها و أجسادهم الصغيرة تنتفض رعبا كريش عصفور يتيم صغير يرتعش من برد شتاء قارس, يكافح وحيدا تحت وابل من الأمطار المنهمرة و لا من يلتقطه من هلاك محقق, تأثر ديوب لهذا المشهد الدرامي المدمي فانفطر له قلبه دامعا كشمعة دامعة من ألم الاحتراق, فتراكمت عليه الآلام ولم يعد في استطاعته كبح جماح غضبه فانطلق لسانه متخلصا من عقدته صائحا معلنا رفضه لفصول هذه الجريمة النكراء في فاضحة النهار,فيها تنتهك حرمة طفولة عاجزة قاصرة عن فهم ما يدور حولها من أحداث لترمى في أتون معارك ضارية تغتصب فيها طفولتهم كمن تغتصب و هي لا تزال في شهرها الأول, صرخ من أعماق قلبه الجريح متجها نحو الملازم تتطاير من عينيه أمواج عاتية من الغضب الجارف, إلا أن رصاصة من غريمه كانت رسالة مضمونة إلى قلبه أخرست لسانه للأبد, أخمدت شظاياها همسات الرفض و الاحتجاج التي كانت تتعالى من هنا و هناك, فانطلق الأطفال و الرجال إلى المجنزرات بنفوس مستسلمة حائرة ,ينظرون بعين مودعة إلى تلك السهوب المتضرجة بدماء ديوب الطاهرة, تتدفق من كبده دما أحمرا قانيا يسقي تلك الأحراش الممتدة نحو الأفق, تدفعها أنفاس ماماديا الزافرة, ملتحمة بها تعيد صدى قصائد الشاعر الإفريقي سنجور في موسيقى عزفت على أوتارها كل النفوس المعذبة كانت فوق العالم السفلي أو تحته, كانت تردد مع سنجور :
الدم يسفح بالمجان في الشوارع
و يختلط بدم المسالخ
و هاأنذا في هذا المرصد
كأنني في ضاحية من
ضواحي المدينة
أشاهد أحلامي تتبدد
في الشوارع
و تتمدد عند سفوح التلال
على ضفاف نهري جامبيا
و سالوم
لم يتبقى لماماديا شيئا تحيى من أجله, شريدة وطن بائس, يتيمة عائلة دافئة, و أرملة قلب زوج رقيق, جميعهم قدموا قربانا لآلهة الحرب المتعطشة للدماء سدنتها جماعة من المتصابين الجشعين لا يهمهم من الوطن غير ما يزخر به من ثروات, يملئون جيوبهم منها.تقدمت خطوات متعثرة نحو جثة زوجها, تفقدت وجهه فوجدته كما عهدته وجه هادئ قد طفت عليه صفرة الموت و برودتها, متبسم الثغر, تتحرك شفتاه بهمسات خشع لها حفيف الأشجار, وفضولا منه توقف خرير المياه عن الانسياب, وحنت العصافير رؤوسها متماهية في مراسيم جنائزية مهيبة, أضفت عليها تراتيل الكاهن صاموييل مسحة من الرهبة و الخشوع.
نثرت ماماديا و توأمها الروحي سيسليا وروود الفل و الرياحين العطرة ,واضعة قبعته السوداء بعد أن طبعتها بقبلة مودعة فوق الشاهد الذي يقول ناطقا هذا قبر الشهيد ديوب الشجاع, فانطلقتا هائمتان و صراخهما يعيد صداه أشجار السرو الكثيف حتى ضاعتا وسط أدغال إفريقيا المترامية, فلم يعرف مصيرهما حتى اللحظة, فتناسلت حوليهما الحكايات و نسجت في قوالب أسطورية لا تلتقي بالواقع إلا عند نقطة الأسماء, فهناك من الناس من يزعم أن ساحر قبائل الزولو يتصل بهما في عوالم الأرواح إذ أصبحتا طيفا واحدا يهيم زاعقا فوق ضفاف الأنهار و الوديان, و هناك من يزعم أنهما تحولتا إلى زهرتي بنفسج نبتتا على قمة جبل "كليمينجارو", تصرخان بمجرد حلول الظلام أو عند إطلاق المدافع, وهناك رواية أخرى تزعم أنهما شوهدا معا بميناء طنجة تنظران بعينين دامعتين إلى صفحة المياه و قد تبدت لهما صور أجساد الموتى المتفسخة فانتابهما مس من الجنون حتى صار نحيبهما يسمع خارج المصحة العقلية, و هناك من يزعم أنهما تحولتا إلى تمثالين دامعين يقام عند معبدهما رقصات التفجع و التأبين للجنائز وتذبح عند نصبيهما قرابين تهدئة الأرواح المثيرة للحروب,و هناك من يقول أن جسديهما من شدة الحزن قد تحول إلى صرخات مستغيثة يتردد صداها في أروقة الأمم المتحدة, ومع ذلك ما زال لغز اختفائهما يحير الكثير من الناس .
إلى المعذبين في وطننا فليسطين إلى المعذبين في العراق إلى المعذبين في أفغانستان إلى المعذبين في إفريقيا إلى المعذبين في كل مكان إلى كل من فقد أحبته في الحروب الغاشمة. بسم الله الرحمان الرحيم"ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون"صدق الله العظيم