زواج على الر صيف
لم يتألم من شدة الصفعة التي هوت عليه بقدر ما أرعبه الصوت الذي أحدثته على خذه الصغير و هو يحاول أن يلتقط عقب سيجارة شقراء كانت مرمية على رصيف المقهى المجاور لبيتهم, رفع عينيه بصعوبة بالغة فإذا به بصورة أبيه و كأنه عملاق كبير يكيله سيلا من اللوم و جملا إنشائية كلها تهديد ووعيد, نظر بتألم شديد إلى عقب السيجارة و هي تتمزق تحت أرجل الأب الغاضب فاشتد حزنه وانتابه شعور أوحى إلى خاطره أفكارا شيطانية كأن ينتحر, أن يهرب, المهم أن يقتص لها منه, ولما انصرف والده عن مسرح الجريمة أقام لها حفلا تأبينيا في نفسه و هو ينظر إلى أشلائها بقلب متفجع, و من يومها أقسم بالأيمان المغلظة ألا يفارقها أبدا, مرة يغازلها بشفتيه و تارة يداعبها بأنامله و هو يضمها منتشيا إلى حضن رئته التي غدت أرشيفا لملايين السجائر حتى لم يستطع لا أبوه و لا هو أن يضعا حدا لرابطتهما المقدسة, فحتى الحساد و العواذل ما انفكوا يؤلبونه عليها لكن هيهات أن يطلقها و قد نفخت في رحم رئتيه من نطفها السوداء التي كان السعال المتقطع أول علامة من علامات حبله منها, سرعان ما تطور إلى دم أحمر قاني يختلط ببصاقه, و في لمح البصر بدأ ألم المخاض يراوده من حين لآخر لكن ما عساه يكون نوع وليده.
أفاق من غفوته على صوت سعاله الذي ازداد حدة وقد تناهى إلى سمعه خطوات تخطو بإيقاع تند عن صاحبها, إنه الطبيب الذي مد إليه نتائج الفحص وبشره بتوأمين اثنين سرطان في الرئة و سرطان آخر في قصبته الهوائية سقط الرجل مترنحا من هول الصدمة على أول مقعد بجانبه و عيناه تنظران بحسرة إلى ميدعة الطبيب الناصعة البياض و قد تراءت له فيها وجوه أبنائه السبعة و أعينهم طافحة بالدمع يلوحون له بأيديهم الصغيرة يودعون نعشه المحمول على أكتاف الحساد و العواذل, لكنه سرعان ما عادت البسمة إلى وجهه الشاحب عندما امتدت يد إلى مقل أبناءه فمسحت عنهم الدمع و رمت له كيسا من الدواء يخفف عنه و طأة المخاض.